(*) عودة إلى الينابيع

mjoa Tuesday November 4, 2008 351

خواطر في الذكرى الستين لانطلاق أسرة الطفولة

مقدمة
في هذه الذكرى، وقد أعطاني ربنا أن أكون من المعنيّين المباشرين بها، لايسعني إلا أن أعود، بالفكر والقلب، إلى خبرة محوريّة عشتها في طفولتي، وهي خبرة معاناة آلت إلى بهاء، كان تقاطعها مع تأسيس الحركة وانتمائي المبكّر إليها، الينبوع الذي روى وألهم وأخصب مساهمتي الشخصية في تأسيس ما دُعي أولاً “مدارس الأحد” ثم سُمّي “منظمات الطفولة” ومن بعد ذلك “أسرة الطفولة”.

.

معاناة طفل
ولتفصيل ذلك دعوني أعود بالذكرى – مُتخطياً خشيتي من إشاعة الملل في نفوسكم – إلى تلك الحقبة البعيدة (سنة 1938، إذا لم أكن مُخطئاً) حيث كان لي من العمر 12 سنة وكنت عندها تلميذاً في صف ال quatrième (الثالث من المرحلة المتوسطة) في مدرسة الفرير في طرابلس. كان النظام المدرسيّ في تلك الأيام كئيباً (ولست أدري إذا قد تغيّر كثيراً من هذه الناحية منذ ذلك العهد)، خاصةً بالنسبة إلى طفل من ذلك العمر شاءت الظروف أن يكون أصغر تلامذة صفه. كانت المدرسة تبدو لي سجناً كبيراً على هامش الحياة الحقّة نقضي فيه ساعات طوال، من الصباح الباكر وحتى المساء في الأيام الإعتيادية، نُلقَّن خلالها تلقيناً مواداً دراسية لا نرى غالباً أيّ رابط بينها وبين اهتماماتنا العفويّة، ونخضع طوالها لنظام جامد لا يترك لنا أي مجال للمبادرة الحرّة وإطلاق طاقاتنا الفتية. أذكر، على سبيل المثال الموضح، أن أحد أساتذة الصف المذكور، وهو معلم للرياضيات، كان يُعاقب كل تلميذ يسمح لنفسه، إذا شاء طرح سؤال، برفع ذراعه في الهواء، إذ كان عليه، بموجب التعليمات المُشدّدة الصادرة عن ذلك الأستاذ، أن يكتفي بإسناده إلى خشب طاولته، وكان ذلك من جملة أوامر صارمة شبّهها تلامذة صفي، تنفيساً عن ضيقهم، بوصايا الله العشر كما وردت في التوراة، وصاغوها، على شاكلة ما كانت تُصاغ به الوصايا العشر في التعليم المسيحي الذي كنا نتلقاه، بأبيات شعرية. فعلى نَسَق:

إلهاً واحداً تعبُدUn seul Dieu tu adoreras                      
وتحبه حباً كاملاً Et aimeras parfaitement                      
صاروا يُردّدون “الوصية الأستاذية” التالية:
يدك ترفعهاLa main tu lèveras                              
على الطاولة عامودياًSur la table perpendiculairement                  

كان “إخوة المدارس المسيحية”، الذين تعهّدوا آنذاك معظم تعليمنا، أناساً مُكرَّسين، وكثيراً ما كنا نرى نور الرب مرتسماً في عطائهم وإخلاصهم واهتمامهم الحقيقي بنا. ولكن الدور الجامد الذي ألبسهم إياه النظام التربوي التقليدي كان يأسرهم ويأسرنا معهم ويُقيم الحواجز بيننا وبينهم ويُنشئ عوائق أمام قيام علاقة إنسانية بينهم وبيننا كما وبيننا نحن التلامذة المفروض علينا بأن نكون مُتلقّنين وحسب. اما التربية المسيحية التي كنا نتلقاها في المدرسة (والتي، والحق يُقال، أكسبتنا قسطاً هاماً من أسس الإيمان المسيحي التي لم تكن كنيستنا الأرثوذكسية الإنطاكية آنذاك، في هزالة أوضاعها واقتصارها على تأدية الطقوس، قادرة على تزويدنا بها)، فكانت تربية مسيحية تقليدية تتّسم بنفس النمط الإلزامي الإكراهي الذي اتّسم به النظام التربوي الذي أُخضعنا له. كان يومنا المدرسي يبدأ حكماً بقداس لا مناص من حضوره للتلامذة المسيحيين على مختلف مذاهبهم،في أيام الأسبوع. أما يوم الأحد، وهو يوم عطلة مبدئياً، فكان يؤتى بنا فيه، مع ذلك، إلى المدرسة لنحضر القداس في كنيستها ونتلقى بعض الإرشادات. أما التعليم المسيحي، الذي كنا نتلقاه في النصف ساعة الأخير من يومنا المدرسي، فكان مضمونه أشبه ما يكون بمجموعة فرائض تتوزع على محاور ثلاثة: الحقائق التي يتوجب الإيمان بها، الواجبات التي تتوجب ممارستها، الوسائل التي يتوجب أن نتّبعها لكي نتقدّس. كان يغيب عن بال الذين ينقلون إلينا هذا التعليم، على إخلاصهم، أنهم، في غمرة هذا التأكيد المهووس على الواجبات، يُضيعون الجوهر وبيت القصيد، ألا وهو، إن المسيحية هي، قبل كل شيء، حياة تُكتشف فيختارها المرء بملء حريته لاختباره بأنها تنعشه وتجدّده وتطلقه وتحقّق اعمق ما يصبو إليه، وجمال يَفتن لأنه يُضفي على كل شيء ألقاً وبهاءً، و معنى يُلتزم به لأنه ينشل الوجود من العبث ويعطيه نكهة وجدوى، وكنز يُباع كلّ شيء لاقتنائه لأنه وحده يُلبّي انتظار القلب الغامض ويروي عطشه الصميم، وإنّ “الواجبات” بالتالي، بدل ان تكون الأصل، لا تتعدى كونها تعبيراً عن متطلبات هذه الحياة الجديدة وأطراً للحفاظ عليها من التشتت والضياع.

رغم هذا الإلتباس الذي أحاط بتربيتنا الدينية المدرسية هذه، كان الإنجيل، لحسن الحظ، حاضراً فيها، وكانت بعض نصوصه تقدَّم إلينا بانتظام لنتأملها ونحفظها غيباً، فكنا، بفضلها، ننتقل إلى عالم آخرنستنشق فيه هواءً نقياً منعشاً، عالم تسوده الحرية والحياة ويعود فيه كل شيء إلى نصابه الصحيح. ولكن الإنجيل كان، بالنسبة إلينا، وكأنه أسير تلك القوالب التربوية والدينية الجامدة التي كانت تطبق علينا وتحدّ آفاقنا، وكانه كان محبوساً فيها كالمارد في القمقم، أو بالأحرى، وبتعابيره هو، كان كالسراج الذي يوضع تحت المكيال أو الخمر الجديدة التي تُسكب في خوابٍ عتيقة. كان محتاجاً إلى مناخٍ آخر، يُحرّره من عقالاته ويُتيح له مجال ممارسة طاقته المحرّرة. هذا ما كنت، ولا شك، أنتظره وأتوق إليه، بصورة غامضة، في قرارة نفسي، إلى أن برز أمامي، برأفة إلهية، في وضح النهار.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share