… المياه تجري بالسّفينة، بقوّة هائلة، نحو منحدر الشّلاّلات السّحيق، لتغور في أعماق أرض الموت، والقوم، على ظهر السّفينة، يتصارعون ويتقاتلون ويتناهشون! “صراع من أجل البقاء”، يقولون! غباء، ما بعده غباء! منتهى العمى! أيّ بقاء؟! كلّكم رحلتم وترحلون! “كلّ ما تحت الشّمس باطل”! “ويل لنا لأنّنا قد خطئنا” (مراثي 5: 16). لأنّنا سلكنا في العمى… بإرادتنا. طفت المياه فوق رؤوسنا (مراثي 3: 54)! مَن ينقذنا من جسد هذا الموت… (رومية 7: 24)؟! الكلّ، إلى اللّجّة، يهوي! ليس ثابت نتمسّك به! والمياه تتقاذف! أما لهذا اللّيل من آخِر؟! سقوط في سقوط في سقوط! بلى! ثمّة واحدة وحيدة، قال، تدوم: المحبّة! “المحبّة لا تسقط أبدًا” (1 كورنثوس 13: 8)! إذَن لنا رجاء! هذا هو المحور! هذه هي البداية والنّهاية! أنا هو الألف والياء، البداية والنّهاية، قال المحبّة!
اليوم، وُلد لكم مخلِّص هو المسيح الرّبّ! إلى السّالكين في الظّلمة وظلال الموت، نور أشرق عليكم!
ليست المحبّة ما يصدر عن الله بل إيّاه. المحبّة هو! طبعًا، كلّ خَلْقِ الله إشراقُ محبّة. نحن نجيء من إشراق، لكنّنا نلتمس المُشرَق من العلى، إيّاه، شمس البرّ عينه. خَلَقنا من العدم؟ طبعًا! ولا ننسى أنّنا تراب ورماد! لكنّه أعطانا أن نحبّ. الحرّيّة للحبّ أو تموت! والحبّ كلٌّ أو لا يكون. الحبّ، بطبيعته، يطلب الآخر، لا ما للآخر، ولا، فقط، ما يأتي منه. ما يأتي منه، في الحقيقة، مَركبة إليه. أن نصير في الله، في المدى، ملء المحبّة، وإلاّ لا محبّة أصيلة ولا قيمة عميقة لها! ما دامت الوصيّة العظمى: أحبّ الرّبّ إلهك من كلّ قلبك… فأنت مدعوٌّ، حتمًا، لأن تصير واحدًا وإيّاه، بالحبّ. هو يرفعك إلى مستواه أو لا يمكنك أن تحبّ. طبعًا، لا أنت تذوب فيه، ولا هو يذوب فيك، ومع ذلك تتّحدان. المحبّة كيان في كيان، ولكنْ، أيضًا، كيان إلى كيان، نحوه. هذا، وجوديًّا، ما تتوخّاه المحبّة، ما تحيا له، وما هو معطى لها من فوق لأنّ الله محبّة! كلّ لاهوتنا كامن ههنا. فقط إن أحببتَ صرت لاهوتيًّا، عرفتَ الله، وإلاّ ما عرفتَه ولا كان لك إمكان معرفته. “كلّ مَن يحبّ وُلد من الله ويعرف الله. ومَن لا يحبّ لم يعرف الله لأنّ الله محبّة” (1 يوحنّا 4: 7 – 8). المعرفة محبّة، والمحبّة وحدها هي المعرفة الحقّ. كلّ معرفة غير معرفة المحبّة من التّراب وإلى التّراب تعود!
هذا يأتي بنا إلى القول إنّ المحبّة، والمحبّة وحدها، أبديّة. المحبّة تأتينا كمن خارج الزّمن، ولو خبرناها في الزّمن. وحدها المحبّة غير مخلوقة، ممّا أُعطي للإنسان. كلّ شيء آخر، في أفقنا، منها وإليها. المحبّة فوق الزّمان والمكان، لأنّ إلهنا كذلك. إنسان يحبّ هو كائن مخلوق صار، في آن معًا، غيرَ مخلوق! مِن قِبَل الرّبّ كان هذا وهو عجيب في أعيننا! تراب ورماد وضياء! هذا يضعنا أمام حقيقة بشريّة إلهيّة فذّة، ما يجعل الحياة الأبديّة ذات طبيعة إلهيّة بشريّة. ماذا يعني ذلك، بكلام أوضح؟ يعني أنّ الإنسان المنعَم عليه بالحياة الأبديّة يَختبر ما هو فوق الزّمن في الزّمن. ما هو فوق الزّمن لأنّ الله هو إلينا ومعنا وفينا. وما هو في الزّمن لأنّنا باقون بشرًا… إلى الأبد. كائنون بشرًا وصائرون إلهيّين، أو آلهة بنعمة المحبّة الإلهيّة… إلى الأبد! أبديّتنا من معدن أبديّة الرّبّ يسوع المسيح، له المجد، لأنّه آدم الجديد، الإله المتأنِّس.
على هذا، اليوم، في بيت لحم، يولد، في الجسد، غيرُ المخلوق. حقيقة جديدة تنبلج! الله يصير إنسانًا، إلهًا وإنسانًا معًا، واحدًا، إيّاه، فيما للألوهة وفيما للبشرة، وإلى الأبد، ليصير الإنسان إلهًا، إنسانًا متألِّهًا، واحدًا فيما للبشرة وفيما للألوهة بنعمة المحبّة الإلهيّة. الله – المحبّة يأتينا لنعرف أنّ المحبّة هو الله، وذلك بالمحبّة الّتي أحبّنا الله بها. نحن نحبّه لأنّه هو أحبّنا أوّلاً وصارت محبّته فينا. كلّ كلام عن الرّوح والحياة الرّوحيّة والحياة الأبديّة يبقى غير واضح إلى أن يُقرأ بأبجديّة المحبّة. يُقرأ لا في صحائف مكتوبة بحبر، وحسب، بل بالأولى بروح الله الحيّ، في ألواح قلب لحميّة (2 كورنثوس 3: 3)! ليس الدّماغ مدارَ الكلمة الإلهيّة، وإن كان الدّماغ أداة لها؛ بل القلب هو المدار!
بالبشارة، أوّلاً، بشارة جبرائيل، رئيس الملائكة، لمريم البتول (25 آذار)، لما انقدح التّجسّد، وبميلاد الطّفل الجديد، منها، كوالدة الإله، بعد تسعة أشهر (25 كانون الأوّل)، لمّا اكتمل تجسّده، كإنسان، انفتحت الأبديّة علينا، خرجت من رحِم الله إلينا. هذه لمّا تكن في الفردوس. فقط كان الفردوس مؤشِّرًا لها. لم نُخلَق فيها، ثمّ أضعناها لنستردّها من جديد. فقط كان الخَلْق إليها. “لمّا حلّ ملء الزّمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة… لننال التّبنّي” (غلاطية 4: 4 -5). صرتَ ابنًا، إذًا وارثًا لله بالمسيح (غلاطية 4: 7). الوارث، بين النّاس، هو لمَن يموت، أمّا عند الله فلشركة حياة الحيّ إلى الأبد!
بكلام كثير سبق فكلّمنا الرّبّ الإله أن: “أنا قلت إنّكم آلهة وأبناء العليّ تُدعَون”. لم نفهم ولم يكن ممكنًا لأحد منّا، إذ ذاك، أن يفهم. ظننّاا الكلام مجازيًّا. الكلمة قيلت وتقال، وفهمها ما كان ليأتي إلاّ في ملْء الزّمن، عندما تتحقّق. “في ذلك اليوم”، قال الرّبّ يسوع لتلاميذه، “لا تسألونني شيئًا” (يوحنّا 16: 23). لا تسألونني لأنّي سأراكم، أيضًا، قال (يوحنّا 16: 22). لم يقل: “سترونني” بل “سأراكم”، فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحدٌ فرحكم منكم. سأشملكم بنوري فترونني فيه وأصير ويصير ما كلّمتكم به لكم بديهةً!
اليوم، للّذين يؤمنون، يأتينا ابن الله بالجسد بديهةَ حبّ، فنلقانا بإزاء سلّم ينتصب من السّماء إلى الأرض، وملائكة الله ينزلون ويصعدون عليه، رفقةَ البشر إلى حياة أبديّة، إلى وجه الله، إلى قلبه، إلى ملكوت السّموات!
هنا، في المذود، يوضع، اليوم، مَن يقدِّم نفسه للمقبلين إليه مطعمًا لحياة جديدة: “خذوا كلوا، هذا هو جسدي… هذا هو دمي الّذي للعهد الجديد”…
اليوم، اليوم، يولد الإنسان إلى الحياة الأبديّة، إلى اللاّزمن في الزّمن، في ملء محبّة الله! “فالمجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة”.