وكان يوحنّا، مولود العُقْرِ البشريّ، الّذي كلّله الإله بالنّعمة، باذِرًا ثمرةَ الصّلاة المستميتة “لزخريّا”، الكاهن النّبيّ، في حشا “أليصابات”، لتُثمر “كاروز القفر”، “سابِق المسيح” و”النّبيّ ٱبن النّبيّ”… يوحنّا، معمِّد الإله في نهر الأردن، والبشريّة بوعد الخلاص!!.
هكذا، ٱرتحلَ يوحنّا صبيًّا… شابًّا… راهبًا، ناسِكًا، مرسومًا وموسومًا بخَتْمِ الإله، ليُقيمَ في صحراء قُدْسِه. يتعلّمُ الكلمةَ من الابن “الكلمة”… ٱبن الآب الوحيد، ومُعْلِنًا عنه بالرّوح القدس، “كلمةً” لا ٱبتداء لها ولا ٱنتهاء لها، بل حرفُ نُطْقٍ، إن خرجَتْ من فَمِ الله لا تعود إليه فارِغة، إلى أن تُفْرِغَ أحشاءُ البشريّة ذاتها من جحيميّة هذا العالم، وعِشْقِ محبّته أكثر من الخالق.
وعرف “زخريا” النّبيُّ وإليصاباتُ زوجُه بالرّوح القدس، أنّ ٱبنهما لم يولِداه هما، بل هو نُطْقُ الإله الكلمة، خاتمة الأنبياء إلى مسيح الرّبّ وبداءة للرّسل، جسرُ حياةٍ لم تمت، بل تنبزِغ وتتجدّد بحياة من حياة الآب في ٱبنه وروح قدسه، في حركة حبّ، تغرف من حياة الرّوح القدس، حياة لا بداءة ولا ٱنتهاء لها، بل تبقى تفاعيلُ حياة الرّوح فيها، فإن نَقُصَت تُزادُ وإن زادت تتوزّع!!.
لماذا السّابق؟!…
لإتمامِ النبوَّة وختمها، بإعلان ٱنبثاق العهد الجديد للإنسان الجديد، الإله من حشا بتوليّة لم ولن يُعرَف كُنْهها من البشريّة إلّا بالإعلان الإلهيّ.
“ينبغي أنّ ذلك يزيد وأنّي أنا أنقُص” (يوحنّا 30:3).
بهذه المقولة أفرغ يوحنّا ذاته بالكلّيّة، “آخِذًا صورة عبدٍ” محتَقَرًا ومرْذولًا من النّاس ليعلو الابن الإله ويحكم!!.
بهذا الإتّضاع “صفة الألوهة”، كشف يوحنّا عن وجه خالقه فيه، ليحمل كلمته وصوته ورأس خلاصه بالمسيح، رأسَه المقطوع ثمن قَوْلِه كلمة حقّ البشارة والإنجيل، مسيحًا جديدًا متجدِّدًا، حتّى القيامة في ومِن حضن الابن، الّذي خلقه وأطلقه ليُعَبِّدَ الطّريقَ أمامه.
وأعلن يوحنّا عن نفسه، أنّه هو “صديق العريس”!!.
بصداقة العريس هذه… مات يوحنّا عن سقطة آدم، ليصلح بذاته، بكلمة حقّ الإنجيل، بعدم الخوف، بنار الحبّ اللّهيبيّة، الّتي تجعل الإنسان يقول “النَّعَمَ”، “المريميّة”، لِيُصْلَح آدم أيضًا وأيضًا، ومجددًا فيولد من التّوبة، ثمّ من الموت، ليستعيد كلّ مَن أُلقوا في الجحيم بسبب تجبّره ومعاندته وتركهِ الإله الحيّ، حتّى يولِدَ نفسَه إلهًا للموت… هكذا أمات الشّرّيرُ الحياة الحقّ، بالموت الجبان وبالقتل.
وٱستضاء وجهُ يوحنّا نورًا من النّور بوجه إلهه “التّابِعَهُ والّذي هو أقوى منه”، والّذي ليس هو مستأهِلاً أن يحلّ سيور حذائه.
من أين بشريّة يوحنّا هذه؟!… من أين إفراغُه الكلّيّ لذاته هذا؟!… من أين عُزُوفه عن العالم وٱمتشاقه رمالَ الصّحاري والكلمةَ الحقّ، الموبِّخَةَ عروش الملوك والنّاقِضَة أُسسها؟! ليستضيء الإنسان بالنّور الإلهي، بكلمة الحقّ وبالتّوبة؟!…
هكذا، أخذ يوحنّا على نفسه سقطة آدم، ولبسها حتّى بدأ وهو العبد، وصديق العريس، حياته بالحبّ للألوهة وعشق مضامينها!. فأدار رأسه عن العالم، حامِلًا وجه الإله في كيانه وٱرتحل.
“توبوا فقد ٱقترب ملكوت السّماوات”…
هكذا تمّ الإعلان الحيّ الوحيد، مخبِرًا الأنام أنّ حفلَ الدّخول لاستقبال ملكوت السماوات، (الرّبّ يسوع المسيح)، هو لِبْس حلّة “التّوبة”، دالًّا شعبَ اليهوديّة وأورشليم وجوار صور وصيدا، أنّ صديق العريس بدأ يتمّم قصده بالرّحيل من هذا العالم، بعد إتمام قصد الآب فيه.
لهذا وُلدَ يوحنّا، وعاش بالنّعمة ومات حيًّا في الإله.
خَفَتَ صوته عن “نداء التّوبة”، مستعيضًا عنه بصلاة العبد لسيّده والتّلميذ لمعلّمه: “ربّي ٱرحمني أنا الخاطئ”. وتكمَّل!!…
نشرة الكرمة
6 تموز 2014