رسالة حركة الشبيبة الأرثوذكسية الى غبطة السيد ألكسي بطريرك موسكو والروسيا كلّها الكلّيّ القداسة

ألبير لحام Sunday June 17, 1945 277

يا صاحب الغبطة

في وسط السرور المقدّس والابتهاج العميق الذين يوحيهما وجودكم بيننا، في وسط الحماس الورع الذي يعرفه اليوم كلّ مسيحي، تأبى حركة الشبيبة الأرثوذكسية – وهي تمثّل في البلاد النزعة الروحية العاملة نحو أرثوذكسية شاملة – إلا أن تضمّ صوتها الى مجموع التهاليل المرتفعة من كل جانب وأن تسمع بإخلاص وجرأة ترنيمة الأرثوذكسية الحقيقية الحرّة.

إن أول زيارة يقوم بها في التاريخ رأس الكنيسة الروسية الى البطريركيات الشرقية القديمة لا يمكن إلا أن تحرّك في ضميرنا الحيّ أقدس الأوتار وأحنّها، أوتار المسيحية الأرثوذكسية – كنزنا المشترك ومبدأ حياتنا الواحد التي منها تنبعث تسبحة شكرنا العذبة لله وأنغام فرحنا الكامل الذي لا يستطيع أحد أن ينتزعه منّا.

نعم. ولن يستطيع أحد أن ينتزع منّا فرحنا المسيحيّ لا أولئك الذي يحوّرون بإسم السياسة معنى زيارتكم الكنسية، ولا أولئك الذي يجهلون روح الحرية التي للأرثوذكسية بالمسيح. لأنه أما الذين ينظرون إلى حياة الكنيسة من الخارج ولم يختبروا سرّ وجودها في حياتهم فلا يسعهم إلا أن يقفوا أمام حوادث تاريخها حائرين يفتّشون عن تعليل لن يصلوا إليه. وأما الذين يحيَوْن بالمسيح في الكنيسة ويؤمنون بعمل الروح القدس فيها لا بل يلمسونه داخلياً فهؤلاء يعرفون أن رحلتكم هذه التاريخية ليست على سبيل المجاملة والملاطفة بل هي عمل عميق المعاني عظيم النتائج في حقل التعاون الأرثوذكسي وفي دور الكنيسة الروسية خاصّة.

وكيف لا يبقى فرحنا كاملاً وقد تجسَّمت اليوم وحدة الكنيسة بشكل ملموس وتوطّدت أواصر المحبة الأخوية بين العالم المسيحي بصورة فعلية وظهرت الأرثوذكسية قوة روحية عظيمة بحدّ ذاتها لا بل أداة فعّالة لجمع الشعوب التي تنتمي إلى عائلتها بحرارة الجو الديني المشترك الذي تعيش فيه على السواء تحت قبّتها. وها الأرثوذكسية تبدو هي هي للروس والعرب واليونانيين والصقالبة الذين يحافظون بغيرة وورع على سلامة وديعة الإيمان وكمالها الذين هم “جسد واحد وروح واحدة كما دعوا برجاء دعوتهم الواحد”.

وهكذا فرحلتكم يا صاحب الغبطة تعطي الجميع برهاناً ناطقاً حيّاً عن جامعية الكنيسة المقدّسة أيضاً التي تربط في وحدتها المسيحية شعوباً مختلفة وعناصر متباينة تتألّف منها كنائس مستقلّة لكن غير منفصلة وغير منعزلة تحتفظ بطابعها التاريخي المحلّي الخاص ضمن شركة الكنيسة الجامعة. فاليوم نشعر بتأكيد بأن الأرثوذكسية مبدأ روحي مسكوني يفوق كل شخصية تاريخة منفردة لا بل يفوق الكنائس المحلّية ويحييها، مبدأ هو “فوق الجميع ومع الجميع وفي الجميع”. وأن الظروف السياسية والحواجز العنصرية والوطنية لن تستطيع بعد الآن كما في الماضي البعيد أن تحمل الكنائس المحلية على عزلة قتالة وانكماش بعيد كل البعد عن الروح المسيحية يعرقل رسالة الكنيسة المسكونية لأن الأرثوذكسية قد تخلّصت بنعمة الله من عبء التاريخ وهي متيقّنة أن رسالتها الإنسانية لا تتم إلا باتحاد سائر أرثوذكسيّي العالم وبالمعاونة المتبادلة والتفاهم المحبّ بين الرئاسات الروحية.

وستلعب البطريركيات الشرقية القديمة دورها في قيادة العمل الأرثوذكسي كي تتجلّى الأرثوذكسية مبنية على أساس الرسل والكنائس الرسولية. وما دعوة رؤساء تلك الكنائس الموقّرة الى موسكو لترأس حفلة تنصيب غبطتكم وما زيارتكم الى أمهات الكنائس إلا مظاهر جديدة في العالم الحاضر للصبغة الرسولية التي ما زالت الأرثوذكسية تحتفظ بها.

أما الكنيسة العظيمة والمجيدة كنيسة روسيا المحفوظة من الله فسيكون لها الفضل الأكبر في نشر الإيمان القويم والقداسة المسيحية في سائر الأقطار والأصقاع. وستظل في المستقبل كما كانت في الماضي وكما هي الآن حاملة لواء المسيحية العميقة الحيّة من أقاصي الشرق في الصين واليابان إلى أقاصي الغرب في فرنسا وبلجيكا ومن شواطئ البحر المتجمّد إلى ضفاف البحر الأسود لذلك فالكنيسة الروسية ستعمل بكل إخلاص على إنماء العلاقات الأخوية بين الكنائس المحلّية لاشتراكها الفعلي في مهمتها الدينية.

إذ قد أتت الساعة يا صاحب الغبطة حيث يجب على الأرثوذكسية أن تقوم دون أدنى تأخير بإتمام رسالة جديدة لا يمكن لأحد سواها أن يؤدّيها في العالم. عليها أن تجتهد لتعود فتصبح ينبوع القوى الخلاّقة في الحضارة الإنسانية وأن تحتلّ المكانة الأولى في الحياة الروحية حتى تسيطر من جديد على الشعوب المنضوية تحت لوائها بل شعوب العالم كافّة. ونحن متيَقّنون أن عبء تلك المهمّة المسكونية يقع بصورة خاصة على أختنا الكبرى المحبوبة كنيسة روسيا المقدّسة، كنيسة المبشّرين والفنّانين والشهداء والمفكّرين والقدّيسين والرهبان المتصوّفين، التي ما زالت تؤمن بأن رسالتها التاريخية الخاصّة هي أن تُظهر للإنسانية أعماق الديانة المستقيمة وجمالها الإلهي لتجذبها بها إلى ميناء الخلاص الذي بيسوع.

لذلك فنحن نتهلّل ونفرح إذ نجد بيننا ممثل هذه الكنيسة الغنيّة بماضيها المجيد، العجيبة بحاضرها، المساهمة بقواها الروحية الفياضة ببناء مستقبل المسيحية الزاهر العتيد.

وكعربون لأخوّتنا المتينة في المسيح ولإعجابنا بروح الشعب الروسي الدينية العميقة، قامت حركتنا – وهي أكبر حركة فكرية دينية في الشرق الأوسط – بطبع هذا الكرّاس الحقير عن كنيستكم العظيمة لتعطي الأرثوذكسيين العرب فكرة عن الحياة الدينية في روسيا عبر التاريخ لعلّنا بهذه الصورة نخدم قضية التقارب الواعي بين الشعوب الأرثوذكسية وقضية الثقافة المسيحية عامّة. نحن نعلم أن كتباً كاملة سوف لا تكفي لرسم صورة كاملة عن أية ناحية من نواحي حياة روسيا المقدّسة ولكننا نرجو يا صاحب الغبطة أن تروا من خلال الأسطر أنه يوجد في بلادنا هذه فوران فكري أرثوذكسي ونهضة دينية جبّارة لا تقلّ قوة وحيوية عن النهضات القائمة في بقية أقطار الكنيسة المسكونية تعمل معها وتهدف مثلها إلى إحياء عصر يشبه عصر الذهبي الفم لا بل يكون أعظم منه بنعمة الروح القدس.

فاقبلوا يا صاحب الغبطة نشرتنا هذه كمظهر من مظاهر ابتهاجنا الصادق بزيارتكم لكنيستنا وعطفنا البنوي نحو شخصيتكم المقدسة وكشهادة حية عن المحبة القلبية التي يشعر بها كل واحد من أعضاء الحركة الألف وخمسماية لإخوانه بالإيمان والروح أبناء الكنيسة الروسية الخالدة.

عن سائر مراكز الحركة في سوريا ولبنان

ألبير لحّام

       أمين السر العام

مجلة النور تاريخ 17-6-1945 ص 1-4

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share