في السادس من شهر شباط تعيّد كنيستنا للقديس فوتيوس المعترف “البطريرك العظيم”(1) “كوكب الكنيسة الباهر الضياء والمرشد الإلهي للمستقيمي الرأي”(2) وأحد أمجاد الأرثوذكسية. فيجب علينا نحن أبناء هذه الكنيسة المقدّسة أن نتعرّف إلى وجهه الحقيقي وإلى الصفحات الخالدة التي سطّرها في تاريخنا وأن نستمدّ من هذه المعرفة ثباتاً في إيماننا وقوة في جهادنا الروحي المسيحي.
ولقد شاءت الظروف أو بالأحرى شاءت العناية الإلهية أن يكون قديسنا معاصراً لنيقولاوس بابا وبطريرك رومية وسائر بلاد الغرب الذي بدأ على عهده انشقاق الكنائس فوقف مدافعاً عن العقيدة التقليدية وأصبح لذلك عرضة لهجمات المؤرّخين الغربيين، وأخذ هؤلاء يحيكون صورة خيالية كاذبة عنه بعد أن شوّهوا الحقائق التاريخية البديهية فقال بعضهم أنه كان “أكبر خدّاع عرفه التاريخ البشري(3) وأنه كان مرائياً ومتصلفاً. ولكنهم لم يجدوا شيئاً في حياته الخاصة ليطعنوا به. وليس من قديس دافع بجرأة عن العقيدة إلا وألصق به أعداؤه مثل هذه التهم الواهية ويعلم الجميع ما عاناه أثناسيوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم من الاضطهادات والهجمات. “ولو كان يصحّ أن يُحكم على إنسان من خلال شهادات أعدائه فقط لما كانت ثبتت براءة أحد ولكنّا توصّلنا إلى أن يسوع نفسه استحق الموت”(4)
غير أنه منذ خمسين سنة تقريباً بدأت في الغرب حركة واسعة للتعمّق بالدروس البيزنطية وخصّص عدّة علماء عظام حياتهم لهذا الغرض وتيقّنوا أن الغرب لم يكن منصفاً في أحكامه على العالم البيزنطي عامّة وعلى الكنيسة الأرثوذكسية خاصة وتطوّرت هذه العلوم في الحقل الديني بصورة خاصّة بفضل المؤرّخ الإنكليزي المستر بورى ولكنّها توصّلت إلى نتائج خطيرة في الأبحاث الطويلة التي قام بها الأب دفورنيك التشيكوسلوفاكي الكاثوليكي، إذ أن هذه الأبحاث أظهرت بوضوح بطلان التهم الموجَّهة إلى القديس فوتيوس
- شارل ديهل: أهم مشاكل التاريخ البيزنطي – صفحة 163
- الميناون – 6 شباط
- روهر باخر: تاريخ الكنيسة الكاثوليكية – المجلّد 6 صفحة 592
- الأب غيته: الباباوية المنشقّة صفحة 305
في القرون العشرة الأخيرة وأيَّدَت وجهة نظر المؤرّخين الأرثوذكسيين والكنيسة الأرثوذكسية(5).
ونحن إذ كنا نهدف في مقالتنا إلى إعطاء فكرة عامة عن شخصية هذا القديس الكبير وعن أعماله، سنرجع إلى هذه المصادر الغربية الحديثة لنبيّن الحقيقة بصورة لا تقبل الشكّ. وسنجتهد في القسم الأول لرسم صورة مصغّرة عن شخصية البطريرك أما في القسم الثاني فنتكلّم بروح المحبّة عن الخلاف بين الكنائس الذي وقع على عهده متجنّبين الدخول في مجادلات جافّة تولّد التنافر بين المسيحيين.
القسم الأول: حياة البطريرك فوتيوس وشخصيته
- حياته
وُلِد فوتيوس في القسطنطينية حوالي سنة 820 من عائلة شريفة عريقة ومتمسّكة بالتقاليد المسيحية القديمة حتى أن أبوَيه استشهدا في أيام حروب الأيقونات. فنشأ فوتيوس في هذا الجوّ المسيحي وكان يميل منذ صغره الى العلوم وكان يسهر الليالي الطوال منكبّاً على المطالعة حتى أصبح أبرع رجال عصره علماً. ولمّا شبّ أخذ يعلّم الفلسفة واللغة وأضحى بيته ملتقى للنخبة الراقية من شبيبة عصره حتى إذا فتح بارداس جامعة القسطنطينية العظيمة عهد إلى قدّيسنا بتدريس الفلسفة فتتلمذ له كثيرون. ونظراً لمقدرته عُيِّن كاتماً لأسرار المملكة وعضواً في المجلس الامبراطوري الأعلى. وأوفد في رسالة الى البلاد العربية حوالي سنة 856 وقال بعضهم الى بغداد فتعرّف الى الثقافة العربية المزدهرة على عهد العبّاسيين وارتبط مع بعض الأمراء بعلاقات طيبة استمرّت بينهم الى ما بعد ارتقائه السدّة البطريركية.
وحصل في تلك الأيام خلاف بين القيصر مخائيل والبطريرك اغناطيوس فاستقال هذا الأخير على إيعاز من أكثرية المطارنة. ولما بحث القيصر والمجمع المقدّس عن خلف له يكون رجل سلام وهمّة وفضيلة اتّفقوا بالإجماع على انتخاب فوتيوس الذي كان علمانياً لأنّهم وجدوا فيه كل الجدارة لاحتلال السدّة البطريركية الشريفة، فكان نصيبه نصيب البطاركة العظام القديسين نكتاريوس وطاراسيوس ونيكوفوروس الذين انتخبوا أيضاً من درجة العوام. وفي عيد الميلاد سنة 857 رُســــم
- راجع سلسلة مؤلّفاته ومقالاته في مجلّة “بيزنطيون” ومحاضراته في مجلّة “ايسترن تشرتشز كوارترلي” سنة 1939
فوتيوس بطريركاً بعد أن مرّ في ستة أيام بجميع الدرجات الإكليريكية. وبقي جالساً على الكرسي المسكوني حتى سنة 867 وهو يعمل على تقديس شعبه ونشر الإيمان القويم بين الأمم والمحافظة على سلامة دستور الإيمان.
ففي هذه السنة قتل باسيليوس القيصر مخائيل ووزيره بارداس واعتلى العرش بنفسه وجاء في اليوم الثاني الى الكنيسة ليكرّس اغتصابه للملك إلا أن البطريرك القديس وبّخه علانية عن جرمه ومنعه عن شركة الأسرار المقدّسة. غضب القيصر من هذه الإهانة التي ألحقتها به جرأة فوتيوس المسيحية فعزله ونفاه إلى دير سكيبي وأعاد البطريرك اغناطيوس الى الكرسي حيث بقي حتى وفاته عام 878 وكان فوتيوس قد رجع من منفاه وعيّن مهذّباً لأولاد القيصر فأعاد المجمع انتخابه الى السدّة البطريركية.
وعندما اعتلى القديس كرسيه للمرة الثانية كان مواظباً على الوعظ والتأليف ومقاومة البدع حيثما وُجِدَت وبقي هكذا حتى عزله القيصر الجديد لاون لينصّب أخاه محلّه. فانسحب فوتيوس الى دير الأرمونيين في أواخر 886 “وبقي ملازماً الصلاة والمطالعات ومتعبّداً لله بعقلٍ خالٍ من الهموم العالمية الى نهاية حياته. وفي السادس من شهر شباط 897 رقد شيخاً جليلاً مملوءاً من الأيام مستظهراً على مستعبدي الكنيسة وهادماً التعاليم الغريبة وحاملاً راية المجامع المسكونية ورسولاً للأمم ومعلّماً للبيعة وموعباً من كل حكمة وعلم وفلسفة”(6)
وسيظلّ حيّاً إلى الأبد في قلوب الأرثوذكسيين لأنه كان نبراساً للعِلْم ومِثالاً للرّاعي الصالح الساهر على الوديعة الإلهية وأكبر مبشّر بالمسيحية بين الوثنيين كما سنرى في مقالتنا المقبلة.
ألبير لحّام
مجلّة النور تاريخ 1-2-1946 ص 44-46