رجوع الى مسيحية المسيح

ألبير لحام Friday July 7, 1950 115

حول كرازة الرب في الناصرة

رجوع الى مسيحية المسيح

                                                                             بقلم الأستاذ ألبير لحام

في اليوم الأول من شهر أيلول تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية ببدء السنة الكنسية فتتلو في خدمة القداس الإلهي فصلاً من بشارة لوقا الإنجيلي عن زيارة الرب يسوع للناصرة في بداية عمله التبشيري. وفي هذا الفصل يذكر الإنجيلي أن مخلّصنا الإلهي جاء الى الناصرة حيث كان قد تربّـى فدخل المجمع وقرأ في الإصحاح 61 من سفر اشعياء العبارات الآتية:

“روح الربّ عليّ، مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأشفي مُنكسري القلوب، لأناديَ للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر، لأحرّر المنسحقين وأكرز بسنة الرب المقبولة”.

ثم أغلق السفر وإذ كانت عيون الجميع شاخصة إليه، أخذ يقول لهم “اليوم قد تـمّ هذا المكتوب في مسامعكم” (لو 4: 16-22).

إن هذا الفصل من الكتاب يضع أمامنا أنموذجاً من كرازة المسيح الأولى ويفصح لنا عن طابع هذه الكرازة الإنساني العميق. فيسوع لم يأتِ لكي يفرض على الإنسان شيئاً بل لكي يهبه كل شيء، ليس فقط غفران الخطايا، بل حياة جديدة نيِّــــرة.

كثيراً ما يعتقد المسيحيّون أن عمل يسوع الخلاصيّ إنّـما ينحصر في تطهيرنا من الخطيئة وأن هذا العمل يتحقّق بالتالي في ناحية معينة من كياننا الإنساني أعني به الكيان الديني المحض وأن هذا الكيان الديني هو وحده موضوع اهتمام مخلّصنا.

إن كرازة يسوع في الناصرة تثبت لنا فساد هذه النظرية وأن عمل يسوع يتناول الإنسان بكلّيّته. إنه قيادة تامّة في الحياة، وليس هو غريباً عن مشاكل الإنسان واهتماماته اليومية ولا عن نضاله المرير وآلامه. فيسوع هو الإله الذي يدخل إلى صميم المعمعة البشرية، حيث يناضل الإنسان في سبيل تحرّره وانطلاقه. وهو الذي يشترك في هذا النضال حتى إذا ما نال الغلبة أشرك الجميع في انتصاره البهيّ.

فما هو بالحقيقة رجاء الإنسانية وهدف نضالها؟ أليس هو تحطيم قيود الظلم والجهل والخوف التي ما تزال تكبّل الأفراد والجماعات؟ أليس هذا هو بالضبط هدف الكرازة المسيحية كما عبّر عنها يسوع في الناصرة بقوله “روح الربّ عليّ، أرسلني لأبشّر المساكين، لأشفيَ منكسري القلوب، لأرسل المنسحقين في الحرية” أوليس المساكين الذين يبشّرهم الرب بالخلاص أولئك الذين يئنّون في وادي الشقاء والدموع منبوذين ومُحتَقَرين وكأنّـهم مطروحون على هامش المجتمع البشري؟ أوليس منكسرو القلوب الذين يشفيهم يسوع أولئك الذين تصدمهم تجارب الحياة الكثيرة ومصائبها الفاجعة فتُدمي قلوبـهم وتحطّمها تحطيماً؟ وأولئك العميان الذين ينادي لهم الرب بالبصر هل هم بالحقيقة سوى جماعة الذين أعمت الأهواء الجامحة بصائرهم وحارت أمام تعقد الحياة ومشاكلها ضمائرهم فما عرفوا أي سبيل يسلكون؟ ومن هم لعمري هؤلاء المأسورين الذين يطلق الرب سراحهم إلا الذين يطمحون إلى حياة طليقة حرّة مطمئنة فتقضي على مطامحهم عبوديات لا عدد لها؟ وهؤلاء المنسحقين الذين يرسلهم الرب في الحرية أليسوا جماعة الذين اضطهدتـهم عدالة البشر المزيفة وسحقتهم ظلامة هذا الدهر الغاشمة؟

فما هو إذن ميدان عمل المسيح الخلاصي؟ إنه ميدان الإنسانية بالذات. لا أكثر ولا أقل. فحيث نضال الإنسان، هناك خلاص المسيح. وحيث يتألّم الإنسان، هناك غلبة المسيح. وحيث يُستعبَد الإنسان، هناك يحرّر المسيح. وحيث يضلّ الإنسان، هناك يضيءُ المسيح. وحيث يموت الإنسان، هناك يُـحيي المسيح. وحيث تتكاثر خطايا وهفوات الإنسان، هناك تفيض بالأكثر نعمة المسيح.

على هذا المستوى الإنساني الشامل أراد الرب يسوع أن يضع كرازته. وعلى هذا المستوى الإنساني الشامل العميق يجب أن يفهم المسيحيون مسيحهم “لكيما يدركوا ما هو العرض والطول والعمق والعلوّ لمحبّة المسيح الفائقة المعرفة ويمتلئوا إلى كلّ ملء الله” (اف 3: 19).

***

إلا أن على المسيحيين أن يفهموا حقيقة ثانية، لا تقلّ عن هذه أهمية، أعلن عنها يسوع أيضاً في كرازته في الناصرة. وهذه الحقيقة هي أن طريق الخلاص الذي ينادي به يسوع ليس فلسفة أو حكمة جديدة، ولا هو فرائض خارجية وقواعد أخلاقية. فكرازة يسوع لم تكن بمبادئ معينة أو بنظام جديد. فهو يحمل للإنسانية بشارة مخلّص لا بشارة الخلاص فحسب وبشارة محرّر لا بشارة الحرية. إن كرازة الرب في مجمع الناصرة هي إذن كرازة بمخلّص حيّ مسحه روح الله ليتمّم في شخصه انتظار الإنسانية وطموحها الى الانطلاق والانعتاق، ويحقق في ذاته ما أخبر عنه الأنبياء عن عهد النعمة وسنة الرب. لا بل هي كرازة بمجيء هذا المخلص فعلاً الى العالم في شخص يسوع: “اليوم قد تـمّ هذا المكتوب في مسامعكم”.

إن هذه الحقيقة هي أساس المسيحية. المسيحية هي ديانة المخلّص وليست ديانة الخلاص فحسب. وقديماً قال الملاك للرعاة “إني أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: لقد وُلد لكم اليوم مخلّص هو المسيح الرب”. إن كرازة يسوع في الناصرة لا تختلف بشيء عن إعلان الملاك هذا وهي تؤكّد مجدّداً أن محوَر البشارة المسيحية هو شخص المسيح الحيّ. فالمسيحية ليست مجموعة من العقائد يقبلها العقل ولا مجموعة من الترتيبات يجب المحافظة عليها. إن قلب المسيحية النابض ليس في فلسفتها ولا في نظامها ولا في طقوسها بل هو في ذاك الذي يقف في وسط الانسانية باسطاً فوقها صليب انتصاره، جامعاً تحت جناحَيه ماضيها ومستقبلها، داعياً إليه جميع المتعَبين والثَّقيلي الأحمال ليفيض عليهم بحياة البهجة والطمأنينة والحرّية.

وكم نحن بحاجة في يومنا هذا إلى أن نعي أخيراً أن الشعوب لن تبلغ ما تصبو إليه من آمال بقبولها فلسفة أو عقيدة مهما كانت مستقيمة ولا بقبولها نظاماً اجتماعياً مهما كان مغرياً بل تبلغه فقط في قبولها شخص يسوع المسيح كمخلّص وسيّد بكلّ ما في هذه الكلمات من قوّة ومعنى. “أما الذين قبلوه فقد أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله” (يو 1: 12).

***

ولذلك فكرازة يسوع في الناصرة هي برنامج شامل للكنيسة المسيحية.

فبعد أن أغلق يسوع سفر اشعياء وإذ كانت عيون الجميع شاخصة إليه، أضاف قائلاً: “اليوم تـمّ هذا المكتوب في مسامعكم” إن هذا اليوم الذي يستمرّ الى انقضاء الدهر هو قوة المسيح العاملة أبداً في الكنيسة وهو هدف الكنيسة في الوجود ورسم صريح لرسالتها في العالم. فرسالة الكنيسة ليست في أن تقاوم فلسفة العالم بفلسفة معاكسة ونظامه بنظام مقابل إنما رسالتها أن تواجه العالم بيسوع المسيح – “لليونانيين جهالة وللعبرانيين عثرة وأما للمدعوين فقوة الله وحكمة الله” بيسوع المسيح “الخلاص الذي أعدّ قدّام وجه جميع الشعوب نور إعلان للأمم” (لو 2: 21) – وأن تُسمع رسالته الإنسانية الكاملة الصادرة عن محبة للبشر لا تُحَـد والآيلة الى فرح عميق لا يُوصَف، وأن تعلن باستمرار تحقيق رجاء الإنسانية بيسوع المسيح: “اليوم تـمّ هذا المكتوب في مسامعكم”.

وإذا كانت هذه رسالة الكنيسة، فيبدو جلياً أنـها لن تحقق إلا إذا كانت الكنيسة في معابدها ومظاهرها ومختلف أطوار حياتـها تركّز أبصار أتباعها خاصّة والبشر عامّة على شخص يسوع المسيح الحيّ كينبوع للحكمة والحرية والخلاص ويبدو جليّاً أيضاً أن عقائد الكنيسة وفلسفتها وأسرارها وطقوسها ونظامها وكل ما فيها من تراث فكري وفنّي وديني، لا مبـرّر له ولا معنى على الإطلاق إن لم يكن يهدف مباشرة ً الى خدمة الإنسان، لتحريره بيسوع المسيح، الطريق والحقّ والحياة. لأنه عندما تصبح عقائد الكنيسة وطقوسها وأنظمتها أهدافاً لأبنائها قائمة بذاتـها بعيدة عن مصدرها الأول وعن مرجعها الأخير، عندما تغشي هذه المظاهر والاهتمامات صوت يسوع العذب ورؤياه البهيّة، عندئذ تتعطّل رسالة المسيح في الكنيسة.

إن هذا الخطر لموجود دائماً في الكنيسة ما دام أعضاؤها معرَّضين للخطيئة ولذلك يجب علينا نحن المسيحيين أن نصلّي بغير انقطاع إلى سيّد الكنيسة “الذي أسلم نفسه لأجلها لكي يقدّمها مطهّراً إيّـاها بغسل الماء وبالكلمة لكي يحضّرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها” (أف 5: 25-27). أن ينقّيها باستمرار ويؤهّلها لتحمل رسالته بين البشر وتعلن كلمة كرازته بقوة ونقاوة حتى يؤمن كل من يسمع بـها وتكون له الحياة.

مجلة النور تاريخ عددي تموز وآب 1950 ص 141- 144

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share