حكم الله في الكنيسة

ألبير لحام Wednesday May 7, 1952 203

بقلم الاستاذ ألبير لحام

ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد

(لو 1 : 33)

“لقد أقام الله في الكنيسة اولاً

رسلاً وثانياً أنبياء وثالثاً معلمين”

(اكو 12: 28، اف 4: 11)

 

من أهم الأخطار التي تحوق بنا عندما نتكلم عن الكنيسة الأثوذكسية، عن تعاليمها ورسالتها وروحها ونظامها، خطر الاسترسال في نظريات ذاتية مستوحاة من آرائنا الاجتماعية الخاصة وميولنا السياسية ومزاجنا العاطفي واتجاهنا الثقافي، بدلاً من الرجوع الى المصادر الأولى للإيمان المسيحي لاقتباس التعليم الصحيح الذي تحويه هذه المصادر. إن الكنيسة هي “أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها”. (رؤ 21: 2) فليس لنا أن نرسم عنها الصورة التي تروقنا ولا ان نـهيأها كما نشاء ونرتئي بل علينا بالأحرى أن نسعى جهدنا لتفهّم حقيقتها المعلنة ولمعرفتها كما أعدّها الله لنفسه ولنا، “لكي لا يكون إيماننا بحكمة الناس بل بقوة الله” (اكو 2: 5) متذكرين دوماً قول الرب: “لأن أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي، وكما تعلو السماوات عن الأرض كذلك طرقي تعلو عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم” (اش، 55: 8 – 9).

فبروح المؤمن الذي يطلب مشيئة الله ويُخضع لها آراءه وأهواءه ومشيئته الخاصة، يجب أن نبحث في سر الكنيسة وأن نتحدث عن شؤونـها كافة. إن موقفاً كهذا تمليه علينا ماهية الكنيسة.

أولاً: سلطان المسيح في الكنيسة

فالكنيسة ليست مؤسسة زمنية أرضية تسعى وراء أهداف روحية، تـهذيبية ومثالية. ولا هي مجموعة من البشر تقرر مبادئها ومصيرها بنفسها وتسنّ لنفسها قوانين ودساتير وشرائع. ولئن كانت كلمة “الكنيسة” تعني “الجماعة”، إلا أن الكتاب المقدس يذكّرنا باستمرار بأن هذه الجماعة هي “كنيسة الله” (اتي 3: 5، اكو 1: 2 و 10: 32 و11: 22 و15: 9) هي شعب الله (ابط 2: 10) هيكل الله (اكو 3: 16)، جماعة أهل بيت الله (اف 2: 19)، جسد المسيح الإله (اف 1: 23)، أي أنـها ملك الله لا البشر الذين يؤلفونـها.

فالكنيسة هي ملك لله لأنـها مؤلفة من بشر هو دعاهم الى الوجود كما يقول الرسول: “فإنه فيه خُلق الكل، ما في السموات وما على الأرض، الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل”. ولذلك له سلطان مطلق على الكل كما أن للخزّاف سلطاناً على الطين الذي يصنع (رو 9: 21).

ثم أن الكنيسة ملك لله لأنه سرّ أن يتّخذها لنفسه شعباً خاصاً وجيلاً مختاراً (ابط 2: 9) لإعلان وتنفيذ تدبيره العجيب، وقد ارتضى أن يكون لأعضائها أباً وأن يكونوا له بنين وبنات، (2 كو 6: 18) وقد فرزهم عن العالم ليضمهم الى خاصته فلا يكون لرؤساء العالم فيهم شيئاً (يو 14: 30)

والكنيسة ملك لله ايضاً لأنه “اقتناها بدمه” (اع 20: 28) عندما سرّ بإفراط محبته أن يأتي إلى العالم لابساً طبيعتنا ليصير رأس خلاصنا (عب 2: 10)، مفتدياً إيانا من اللعنة ومشركاً إيانا في مجد طبيعته الإلهية “فلستم إذاً لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله” (اكو 6: 19 – 20). وعلى ذلك فإن سلطان المسيح في الكنيسة هو سلطان المالك على المملوك والمقتني على المقتنى.

أخيراً فالكنيسة هي ملك المسيح لأنه، وهو الذي يحل فيه كل ملء الله جسدياً (كو 1: 19 و2: 9)، سُر بأن يجعل من الكنيسة جسداً له حتى تمتلىء فيه الى كل ملء الله (1ف 3: 19) فكما يتسلّط الإنسان على جسده، هكذا سلطان المسيح في الكنيسة. هو سلطان كامل مطلق. “كل سلطان قد دفع لي في السماء وعلى الأرض” (متى 28: 18). “لأن الله أخضع له كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده وملء الذي يملأ الجميع في كل شيء” (اف 1: 22 – 23).

ليس للبشر إذاً أن يقرروا للكنيسة مبادئ ومُثل. المسيح هو الحق. ليس لهم ان يختاروا للكنيسة نـهجاً في الحياة. المسيح هو الحياة. ليس لهم أن يقرروا لها وسائل الخلاص. المسيح هو الطريق (يو 14: 6). دعوة الكنيسة هي أن تكون أمينة للمسيح “خاضعة له” (اف 5: 24) منقادة لمشيئته بروحه القدوس حتى تحقق كيانـها، “متحوّلة إلى شبه صورته، منتقلة من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” (2 كو 3: 18).

فالكنيسة ليست ملكاً لله بمعنى أنه قد امتلكها لنفسه فحسب بل بمعنى أنه يملك فيها أيضاً. في الكنيسة تتحقق النبؤات عن المسيح الملك المنتظر. هذا ما أعلنه الملاك يوم البشارة بولادة يسوع: “وسيعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه انتهاء” (لو 1: 33) وهذا ما صرح به السيد له المجد أمام بيلاطوس “أنت تقول أني ملك لهذا قد ولدت أنا وقد أتيت إلى العالم لأشهد للحق وكل من هو من الحق يسمع صوتي” (يو 18: 37). الكنيسة هي مملكة المسيح وملكوت الله والمسيح الإله يحكم فيها حكماً مطلقاً إذ ليس للكنيسة من سيد آخر ولا من معلم. “أما أنتم فلا تدعوا لكم سيداً لأن معلمكم واحد وهو المسيح. ولا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السماوات. ولا تدعوا معلمين لأن معلمكم واحد وهو المسيح” (متى 23: 8-10). الكنيسة إذاً ثيوقراطية أي أنـها حكم الله لا حكم الناس. “وما أبعد أحكام الله عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء. لأن من عرف فكر الرب أو مَن مِن الناس صار له مشيراً. فإن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد الى الأبد. آمين” (رومية 11: 33-35).

ثانياً: حكم الله وحكم البشر

إلا أنه لا بد هنا من إبداء ملاحظتين أساسيتين حول الثيوقراطية في الكنيسة. الملاحظة الأولى هي أنه عندما نقول بأن سلطان المسيح في الكنيسة هو سلطان مطلق فلا نعني بذلك أنه استبدادي جائر. لأن المسيح ما أراد لنفسه شيئاً، لكنه من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا أفرغ ذاته آخذاً صورة عبد وظهر بيننا على الأرض كالذي يخدم “لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً يفوق كل اسم لكي تجثو بإسم يسوع كل ركبة ويعترف كل لسان أنه هو رب” (في 2: 9-11). فرئاسة المسيح هي رئاسة في الخدمة وبذل النفس “لأنه لم يأت ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مر 10: 45). ليست الثيوقراطية إذاً استبداداً بل هي خدمة متواضعة وإفراغ للذات من أجل خلاص الرعية وإشراكها في حياة الله. لذلك يقول “احملوا نيري عليكم وتعلموا مني. لأني وديع ومتواضع القلب. فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هيّن وحملي خفيف” (متى 11: 29-30).

بـهذا تختلف الثيوقراطية الحقيقية في الكنيسة عن الثيوقراطيات السياسية المزعومة المزيفة حيث يفرض رؤساء الأمم على الرعية سلطاناً غاشماً جائراً يثقل كاهلها ويحتقر مصالحها وحيث يقبع أسياد هذا الدهر في قصورهم ينعمون بخيرات الدنيا وهم عن آلام الشعب لاهون. إن مملكة الله لم تكن يوماً “أكلاً وشرباً بل هي برّ وسلام وفرح في الروح القدس” (رو 14: 17). لذلك كانت الكنيسة الثيوقراطية الوحيدة لأن مملكتها ليست من العالم ولأنـها توزع حياة الله. والله وحده مصدر هذه الحياة. وهو يوزعها كما يشاء.

وأما الملاحظة الثانية فهي تستند الى كون الكنيسة جسد المسيح الملك (اكو 12: 27؛ اف 1: 23 و 4: 12؛ كو 1: 18). وبالتالي الى كون أعضاء الكنيسة أعضاء المسيح نفسه. فإنه بفعل هذا الاتحاد العضوي بين المسيح والبشر في الكنيسة، يشترك البشر في كل ما هو للمسيح بحسب الجسد. إنـهم يملكون بالنعمة كل ما يملكه المسيح بحسب الطبيعة والجوهر. فبما أن المسيح هو إله فقد أعطى المسيحيين أن يكونوا “شركاء الطبيعة الإلهية” (2بط 1: 4) “وأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله” (يو 1: 12). وبما أنه رئيس كهنة (عب 3: 1 و 4: 14) وملك (لو 1: 33) ونبي (لو 24: 19) فإن أعضاء جسده من البشر هم أيضاً بمعنى “كهنوت مقدس وملوكي” (1 بط2: 5 و9) “وملوك وكهنة الله يملكون على الأرض” (رؤ 1: 6 و5: 10) وروح النبوءة قد انسكب عليهم جميعاً (اع 2: 17-18).

ينتج عن ذلك أن المسيح، وان كان السيد الوحيد والمعلم الوحيد والملك الوحيد في الكنيسة، غير أن البشر الذين في المسيح يشتركون معه في هذا الملك وفي تلك السيادة بمقدار ما هم أعضاء في جسده.

لكن هذا الاشتراك العام في المجد والكرامة لا ينفي اشتراكاً أخص، في الموهبة والعمل. “فإنه كما في جسد واحد لنا أعضاء كثيرة ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل واحد، هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا” (رو 12: 4-6). وهكذا فإن اشتراك الجميع في روح النبوءة لا ينفي أن يخص الله بعضاً في الكنيسة لممارسة عمل النبوءة بإعلان مشيئته للبشر. واشتراك الجميع في الكهنوت الملوكي لا يمنع أن يكون في الكنيسة من يمارس بالأخص كهنوت المسيح السرّي الذي صالحنا مع الله. واشتراك الجميع في الصفة الملوكية لا ينفي أن يكون في الجسد من اختصّهم الله برعاية الكنيسة وتدبير أمورها. لذلك يتساءل الرسول “ألعل الجميع رسل. ألعل الجميع أنبياء. ألعل الجميع معلّمون”. فيجيب كلا “لأنه لو كان الجسد كلّه عيناً، فأين السمع. لو كان الكل سمعاً فأين الشم. وأما الآن فقد وضع الله الأعضاء كل واحد منها في الجسد كما أراد” (اكو 12: 17 و18 و29). “وقد أعطى البعض أن يكونوا رسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشّرين والبعض رعاة ومعلّمين، لأجل تكميل القديسين وعمل الخدمة وبنيان جسد المسيح” (اف 4: 11-12).

ثالثاً: حكم الله وحكم الأساقفة

لقد اتضح لنا مما تقدّم أن الكنيسة هي ثيوقراطية أي أنـها حكم الله لأن الله هو سيدها الوحيد. فهو الذي دعاها الى الوجود وهو الذي يقودها في الوجود وهو هدفها الأول والأخير في الوجود. ثم تبين لنا أن المسيح الإله إذ جعل الكنيسة جسداً له قد أشرك أعضاءها بما هو خاص بذاته ووزع عليهم بالروح الواحد مواهب مختلفة ليقوموا بعمله كما يقوم أعضاء الجسد بوظائف الجسد من أجل نـموّه وبنيانه.

ومن هذه الوظائف في جسد المسيح، وظيفة الأساقفة الذين يمارس الله بـهم رعايته لشعبه كملك ورئيس كهنة. فقد “أقامهم الله ليرعوا الكنيسة التي اقتناها بدمه” (اع 20: 28) ويكونوا “مؤتمنين على الأسرار الالهية” (اكو 4: 1) و”كارزين بالكلمة بوقت مناسب وغير مناسب” (2 تي 4: 2) يعاونـهم في إتمامهم مهمتهم المقدسة لفيف الكهنة والشمامسة.

وهنا يجدر الانتباه إلى أن تولّي الأساقفة مهام الرعاية لا يخرج الكنيسة عن كونـها ثيوقراطية محضة ولا يجعل نظام الحكم فيها أرسطوقراطياً بشكل من الأشكال (أي أنه لا يقيم فيها حكماً لطبقة معينة تحتكر السلطة لنفسها وتمارسها كصادرة عنها أو مختصة بـها) كما أنه لا يجعل نظام الحكم في الكنيسة ديموقراطياً بوجه من الوجوه – إذ أن سلطان الأساقفة ليس مستمداً من الشعب بل من الله. فإنه مهما كانت درجة اشتراك الشعب في انتخاب الأساقفة، فهي لم تتعدَّ يوماً ولن تتعدّى تقديم بعض المرشحين لينتخب الله أحدهم بواسطة مجمع الأساقفة. “وصلّوا قائلين أيها الرب العارف قلوب الجميع، عيّن أنت من هذين الاثنين أياً اخترته” (اع 1: 24). فلا العوام ولا مجمع الأساقفة يظهران إذاً مصدر سلطة الأسقف بل الله الذي يتخذ هؤلاء أداة لعمله ولإجراء حكمه. “لأن أحداً لا يأخذ هذه الوظيفة لنفسه بل المدعو من الله” (عب 5: 4) “وقد أعطى الله البعض أن يكونوا رسلاً ورعاة ومعلمين” (اف 4: 11 واكو 12: 28).

ثم ليست الكنيسة ثيوقراطية بمعنى أن الله هو المصدر الوحيد لسلطة رعاتـها، بل أيضاً بمعنى أن سلطة الرعاة هي سلطة الله عينها يمارسها بواسطتهم، بصورة أن الحكم الوحيد في الكنيسة ليس هو حكم الشعب ولا هو حكم الأسقف بل حكم الله الذي أقام الأسقف راعياً لخلاص الشعب. من الخطأ إذاً أن نتصوّر الرعاة في الكنيسة كأشخاص تنازل الله لهم عن سلطانه المطلق أو أطلق لهم حرية قيادة الرعية كما يشاؤون وإلى حيث يشاؤون “فإن آخر يمنطقهم ويذهب بـهم حيث لا يشاؤون” (يو 21: 18) لأنـهم يمارسون سلطان الله نفسه أو بالأحرى لأن الله يمارس بـهم رعايته لشعبه ويوزع بواسطتهم النعم الغزيرة في الأسرار المقدسة. “ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم” (يو 15: 16) ولذلك يقول الرسول أن المسيح يتكلم فيه (2 كو 13: 3) ويعمل فيه وفي غيره من الرسل (غلا 2: 8) وأن ما يكتبونه هو من وصايا الرب (اكو 14: 37) “إذ أننا سفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا” (2 كو 5: 20).

إن هذا الأمر يميّز بين رعاية الكنيسة وأية إدارة بوروقراطية (1) لأن الأسقف هو بالحقيقة أداة الحكم وليس هو بالحاكم أو بالموظف. إن السلطة الأسقفية ليست ملكاً للأسقف بل هو أمين عليها من قبل الله. فهو يأخذها من غيره بسلسلة غير منقطعة تعود إلى الرسل وإلى المسيح الذي مسحه الله وأرسله لصينع مشيئة أبيه لا مشيئته الذاتية.

 

  • البوروقراطية (bureaucratie) هي استئثار الموظفين بالإدارة والوظائف.

وفي هذا التسلسل الرسولي العظيم تضيع شخصية أي أسقف بمفرده لتبرز من خلال الدرجة الأسقفية سلطة المسيح الإله كراعٍ أوحد لكنيسته على مدى العصور وكملك وحيد “ليس لملكه انتهاء”.  وهكذا ومهما كان طابع الأنانية والكبرياء الذي قد يطبع أعمال بعض الأساقفة، فإن خدمتهم الأسقفية مبنية في الأساس على التواضع وإنكار الذات لأنـهم لم يأخذوا السلطة لأنفسهم ولا هم يمارسونـها باسمهم ولا هم يرعون خرافهم الخاصة بل رعية المسيح القائل “ارع خرافي، ارع غنمي” (يو 21: 16-17) كما أنـهم لا يكرزون بتعليمهم وبعقيدتـهم “فإننا لسنا نكرز بأنفسنا بل بالمسيح يسوع رباً ولكن بأنفسنا عبيداً من أجل يسوع” (2 كو 4: 5).

رابعاً: الثيوقراطية والخضوع للسلطة الاسقفية

“فإذا كان الاسقف يمارس سلطة الله نفسه، وجب أن يكون للأعمال الصادرة عن السلطة الأسقفية طابع إلزامي للرعية. إن الخضوع لمشيئة الأسقف هو خضوع لمشيئة الله” (لوسكي، اللاهوت السرّي الأرثوذكسي. صفحة 184). هذا الخضوع يبدو طبيعياً عندما يمارس الأسقف مهمته بأمانة ونكران ذات، متحركاً بالنعمة “صائراً مثالاً للرعية” (ابط 5: 3). ولكن قد يحدث “أن يكون الأسقف غير متفتح شخصياً للنعمة الالهية. وقد يكون عقله غير مستنير بالروح القدس، فيتحرك بدوافع بشرية ويخطئ في ممارسة السلطان الإلهي. لا شك في هذه الحالة أنه سوف يتحمل نتيجة أعماله أمام الله. غير أن هذه الأعمال تحتفظ بالرغم من ذلك بطابعها الإلزامي طالما أن الأسقف لم يخرج فيها عن القوانين الكنسية أي طالما أنه لم يخالف إرادة الكنيسة الجامعة ولم يضع نفسه بـهذه الصورة خارج الوحدة الكنسية” (لوسكي، اللاهوت السرّي الأرثوذكسي صفحة 184-185).

هذا التعليم الأرثوذكسي المستمر قد يبدو لأول وهلة مناقضاً لما أوردناه عن حقيقة حكم المسيح في الكنيسة إلا أنه ما يلبث أن يتضح نتيجة منطقية لتلك الحقيقة عينها. فإنه لو كانت سلطة الأسقف مستمدة من الشعب، لكان للشعب أن ينكر عليه هذه السلطة عندما يشاء. ولو كانت سلطة الأسقف سلطة ذاتية مرتبطة بشخصه ومستمدة من مواهبه، لكان يحق الخروج عنها عندما تضعف هذه المواهب أو عندما يرتكب الأسقف في حياته وأعماله أخطاء وخطايا. أما وسلطة الأسقف هي سلطة المسيح الذي اختاره ليحكم به رعيته، فإن شخصه يـمّحي في نظر المؤمن أمام عمل المسيح. الأسقف هو أيقونة المسيح، أي صورة له تحمل النعمة للمؤمنين.

فإن كان رسم الأيقونة مشوّهاً أو ناقصاً، ألعله يبطل نعمة المسيح. وأية أيقونة تنطبق على أصلها تمام الانطباق. وأي أسقف يمثل المسيح عن جدارة واستحقاق. وكما أننا لا نكرّم الأيقونة بسبب جمالها الفني بل بسبب المثال الذي تصوّره والنعمة التي تحلّ فيها، كذلك خضوعنا للأسقف لا يُرد إلى كماله الإنساني وإلى صواب أعماله الرعائية بل إلى المسيح الذي يتخذه بالرغم من نقائصه أداة لعمله، وإلى قوة سلطان المسيح التي تعمل في ضعفه.

ألم يقل الرسول مشيراً إلى ذلك “إننا نحمل هذا الكنز في أوانٍ خزفية (1) ليكون فضل القوة لله لا منّا“. (2 كو 4: 7) فإن كان المسيح نفسه يحتمل أعمال الأسقف غير الملائمة، أفلا نحتملها نحن. “فماذا ان كان الله وهو يريد أن يُظهر غضبه ويبين قوته احتمل بأناة كثيرة آنية غصب مهيأة للهلاك. أفنقاوم مشيئة الله. بل من أنت أيها الانسان الذي تجاوب الله”. (رو 9: 20 و22) إن مجرّد اختيار الله لبشر معرّضين للخطيئة والخطأ ليكونوا أداة لعمل نعمته، من شأنه أن يُدخل حتماً شيئاً من النسبية في حياة الكنيسة الأرضية ولا بد من هذه النسبية حتى يأتي اليوم الأخير. إن خضوعنا لتلك الأداة البشرية بالرغم من النسبية التي تلازمها هو اعتراف منا بأن الـمُلك هو لله وحده وأن قوة الله في الضعف تكمل، وأن نعمته الالهية تكمّل كل نقص ناجم عن عدم صلاح الأداة التي تستخدمها “لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمام الله لكن كما هو مكتوب: من افتخر فليفتخر بالرب” (اكو 1: 29 و31).

يجب بالطبع ألا يفهم من ذلك أن سلطة الأسقف لا حد لها وأنـها تبلغ حد التعسّف والاستبداد. فقد رأينا أن الكنيسة هي ثيوقراطية أي أنـها حكم إله المحبة. لا حكم الأسقف الذاتي. وقد جعلنا من هذه الحقيقة أساساً للخضوع الواجب لأعمال السلطة التي يمارسها المسيح في الأساقفة. فبديهي إذاً ألا يكون هذا الخضوع واجباً عندما يأمر الاسقف بما ينهي عنه الله صراحة أو عندما ينهي الأسقف عما يأمر به الله “لأن الله أحق من الناس بأن يُطاع” (اع 5: 29) أو عندما يخرج الاسقف عن “الإيمان الذي قد سُلم مرة للقديسين” (يهو 3) “لأنه إن بشّر ملاك من السماء بخلاف ما بشّرناكم به فليكن اناثيما” (غلا 1: 8) وبديهي أيضاً أن هذا الخضوع غير واجب عندما تخالف أعمال الاسقف القوانين الكنسية أي عندما يفرض سلطته على الكنيسة بدلاً من أن يمارسها في الكنيسة.

ضمن هذه الحدود يبقى الخضوع للأعمال الرعائية واجباً مهما كان النقص أو الخطأ الذي يعتورها. إلا أن خضوع الرعية لا يبرر هذه الأعمال أمام الله. فإنه إذا كان الأسقف مجرّد أداة لحكم الله وكان “مؤتمناً على وكالة” (اكو 9: 17) فعليه “أن يرعى رعية الله لا كمن يتسلط على ميراث الله” (ابط 5: 3) بل “كخادم للمسيح ووكيل للأسرار الإلهية” ذاكراً أنه “يُطلب الآن وههنا في الوكلاء أن يوجد كل منهم أميناً” (اكو 4: 1-2) وخاضعاً لمشيئة المسيح الملك. ان الثيوقراطية تفرض على الأسقف “أن يُظهر نفسه في كل شيء كخادم لله وألاّ يأتي بعثرة لئلا تُلام بسببه الخدمة الأسقفية”، (2 كو 6: 3-6) وتفرض عليه أيضاً “كوكيل لله أن يكون بلا لوم غير معجب بنفسه ولا سريع الغضب ولا سريع الضرب ولا طامع بكسب خسيس (تي 1: 7) بل حليماً غير مخاصم ولا محب للمال” (1تي 3: 3) مقدماً نفسه مثالاً للرعية “تشبهوا بي كما أنا بالمسيح”. (1 كو 11: 1).

 

  • خزفية: من الخزف وهو الطين والفخار.

على الأسقف إذاً أن يحترز لنفسه بمقدار ما يحترز للرعية (اع 20: 28) خاضعاً مثلها لمشيئة الله الحاكم في الكنيسة، عالماً أن على صحة تمثيله المسيح، الراعي الصالح، يتوقف الى حد بعيد خلاص نفوس أبنائه، وأنه سوف يؤدي عن وكالته أمام الله حساباً عسيراً. إن مسؤوليته هذه أمام عرش الله لأرهب وأوهل من أية مسؤولية أمام منابر الناس. حتى أن بولس الرسول نفسه كان يرتعد لذكرها، خائفاً أن يرذله الله في اليوم الأخير من أجل عدم استحقاقه النعمة “لذلك أقمع جسدي واستعبده حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرذولاً” (ا كو 9: 27) فلا يسكرنّ الأسقف بسلطان يمارسه بإسم الله وتخضع له الرعية خصوعها لله، ولا يفسرنّ طول أناة الرب، الصابر على أخطائه وخطاياه، بأنـها تبرير لأعماله المخالفة. فإن الذين يعملون مشيئة الله هم المبررون. “وكثيرون سييقولون في ذلك اليوم يا رب يا رب ألم نكن باسمك تنبّأنا وباسمك أخرجنا الشياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أعلن لهم أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الاثم” (متى 7: 22-23)

أجل ان حكم الله في الكنيسة لحقيقة واقعية رهيبة لأن نـهايته دينونة عادلة. “فإن لي الانتقام وأنا أجازي يقول الرب” (رو 12: 19). “مخيف حقاً هو الوقوع بين يدي الله الحي” (عب 10: 31)! (للبحث صلة)

مجلة النور أيار 1952، ص 83-91.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share