حول قرار المجمع المقدس في قضية توليدو

ألبير لحام Wednesday November 7, 1962 288

بعض الملاحظات القانونية

حول قرار المجمع المقدس في قضية توليدو

بقلم

المحامي ألبير لحام

نشرت مجلة النور في عددها الأخير صورة قرار المجمع المقدس “بتسجيل توليدو أوهايو في عداد أبرشيات الكرسي الأنطاكي المستقلة” الذي رفضه سيادة المتروبوليت أنطونيوس بشير مع الإكليروس والشعب التابعين له لعدم قانونيته. وقد طلب سيادته من المجمع المقدس عرض القضية مجدداً على المجلس الملّي العام ليعيد النظر في القرار على ضوء القانون. وقد ارتأيت إطلاع قرّاء النور على بعض المسائل القانونية التي يثيرها قرار المجمع المقدس.

  • المجمع المقدس وصلاحيات المجلس الملّي العام

الملاحظة الأولى على قرار المجمع المقدس بشأن قضية توليدو هي أن المجمع المقدس قد تعمّد تجاهل وجود المجلس الملّي العام وصلاحياته وقراراته بشأن القضية ذاتـها.

فالمادة الثالثة من القانون الأساسي للبطريركية الأنطاكية تنصّ على أن وضعية الأرثوذكس الأنطاكيين في أميركا الشمالية “يبحثها المجلس الملّي العام” كما وتنصّ نفس المادة أن “ما ينشأ من أبرشيات حين الاقتضاء يكون بقرار من المجلس الملّي العام”.

وهذان النصّان يطبّقان في الواقع المبادئ المنصوص عليها في المادة 73 من القانون الأساسي التي حدّدت صلاحيات المجلس الملي العام وأدخلت في عدادها “الفصل في جميع الخلافات والنزاعات الطائفية” كما أدخلت في عدادها “حقّ تعديل حدود الأبرشيات القائمة وإنشاء أبرشيات جديدة عند الاقتضاء وفقاً للقوانين العامة”.

وعملاً بـهذه النصوص الصريحة وضع المجلس الملي العام يده على قضية توليدو وأصدر بشأنـها قرارات عديدة تؤكّد كلّها وحدة الأبرشية الأنطاكية في أمريكا الشمالية برئاسة متروبوليتها، وتوجب هذه القرارات إنشاء أسقفيات ضمن تلك الأبرشية (تابعة للمتروبوليت) كما تحدّد علاقات هذه الأسقفيات ومجالسها الملّية بالأبرشية ومجلسها الملّي. وقد ساهم السادة المطارنة بصفتهم أعضاء في المجلس الملّي العام في وضع تلك القرارات ووافقوا عليها، إذ أن قرارات المجلس العام تتخذ بأكثرية أصوات السادة المطارنة وأكثرية العلمانيين الحاضرين.

كما أن المجمع المقدس قرر بتاريخ 8 كانون الأول 1961 وفقاً لقرارات المجلس الملّي العام، انتخاب السيد ميخائيل شاهين أسقفاً معاوناً لسيادة المتروبوليت أنطونيوس بشير، في توليدو أوهايو. وفي 11 شباط 1962 قام غبطة البطريرك مع اثني عشر رئيس كهنة بسيامة الأسقف المنتخب.

فعلى ضوء ما تقدّم، يكون واضحاً أن تفرّد المجمع المقدس في 24 أيار 1962 “بتسجيل توليدو أوهايو في عداد أبرشيات الكرسي الأنطاكي المستقلة”، إنما هو مخالف لأحكام القانون الأساسي للبطريركية الأنطاكية التي جعلت هذا الأمر من صلاحية المجلس الملي العام ومخالف أيضاً للقرارات التي اتخذها المجلس الملّي العام، مطارنة وعلمانيين في القضية ذاتـها.

وأخطر ما في الأمر أن هذه المخالفة تأتي إثر الحملة المركّزة التي يقوم بـها بعض السادة المطارنة لدعوة المجمع المقدس إلى تجاهل وجود القانون الأساسي للبطريركية بصورة عامة ووجود المجلس الملّي العام وصلاحياته بصورة خاصة، تلك الحملة الفوضوية التي سجلت إلى الآن “نجاحَين” كان أوّلهما انتخاب مطران حوران خلافاً للقوانين والثاني في إنشاء “أبرشية” توليدو أوهايو.

  • المجمع المقدس وتعديل القوانين

أما الملاحظة الثانية على قرار المجمع المقدس فهي أن المجمع حاول تبرير مخالفته لأحكام القانون بقوله أن النسخة الأصلية لقانون البطريركية كانت تتضمّن ذكر توليدو أوهايو في عداد الأبرشيات الأنطاكية وأن المثلث الرحمات البطريرك ألكسندروس الثالث هو الذي حذف هذا النص من القانون عند طبعه وأن المجمع المقدس، بتقريره إعادة تسجيل توليدو في عداد الأبرشيات الأنطاكية لا يخالف القانون، بل يعود إلى نصّه الأصلي.

هذه الحجة التي حاول المجمع المقدس بواسطتها إسباغ قانونية على قراره هي حجة واهية لأنه لو صحّ وجود تباين النص الأصلي للقانون ونصّه المطبوع، فإن النصّ الذي يعمل به لأي قانون في العالم هو النصّ الرسمي المطبوع دون سواه وأما الخطأ في القانون المطبوع فلا يجوز تصحيحه إلا بقانون جديد. هذا مبدأ قانوني بديـهي لا يجهله المجمع المقدس.

وفي الواقع، فإن النصّ الرسمي لقانون البطريركية الأنطاكية هو النصّ الذي نشره غبطة البطريرك وأبلغه السلطات الرسمية في سوريا ولبنان وأذاعه على أبرشيات الكرسي الأنطاكي وفقاً للمادة 109 من القانون ذاته. هذا النصّ لا يمكن تعديل ما ورد فيه، حتى بحجّة التصحيح، إلا عن طريق المجلس الملّي العام الذي له وحده صلاحية تعديل القوانين والتشريع في الأمور الإدارية. لكن المجمع المقدس كان يعلم جيداً أن المجلس الملّي العام لن يوافقه على وجود خطأ في النصّ الرسمي الذي أقرّه هذا المجلس، مطارنة وعلمانيين، عند بحث قضية توليدو باستمرار منذ سنة 1958 كما أن المجمع كان يعلم أن المجلس الملّي العام لن يوافقه على إنشاء أبرشية مستقلّة بإسم توليدو، لأن المجلس المذكور قد أقرّ باستمرار وحدة الأبرشية الأنطاكية في أمريكا الشمالية.

وهكذا فإن “فتوى” المجمع المقدس بالرجوع إلى نصّ القانون الأصلي المزعوم، ما هي سوى “حيلة شرعية” تـهدف إلى التهرّب في آنٍ واحد من التقيّد بالقانون ومن طلب تعديله وفقاً للأصول.

  • المجمع المقدّس وسياسة الأمر الواقع

وأما الملاحظة الثالثة، فهي أن المجمع المقدس اتّـخذ في قضية توليدو قرارين متناقضين لا يفصل بينهما أكثر من خمسة أشهر. في القرار الأول، أيّد المجمع وحدة أبرشية أمريكا الشمالية وفقاً لقرارات المجلس الملّي العام وانتخب أسقفاً معاوناً لمتروبوليتها في توليدو. وفي القرار الثاني “أفتى” المجمع المقدس أن توليدو أبرشية مستقلّة. فلمَ هذا التناقض؟

يقول المجمع المقدس في قراره ما حرفيته “لدى البحث في قضية توليدو أوهايو تبيّـن أن القرار المجمعي الأخير (أي انتخاب أسقف لها) لم ينفَّذ، وأن الأسقف الذي انتخبه المجمع المقدس لرعايتها لم يتمكن من ممارسة مهمّته فيها”.

هذا يعني أن الرعايا التي كانت تطلق على نفسها اسم “أبرشية توليدو أوهايو” قد رفضت الاعتراف بالأسقف الجديد وتحدّت بذلك سلطة المجمع المقدس وأن المجمع رضخ لهذا التحدّي فأعطى تلك الرعايا ما تطالب به، وبعبارة أخرى أن المجمع المقدس بدلاً من أن يتّخذ الخطوات الإيجابية لتنفيذ قراره ويدعو المتمرّدين إلى الطاعة، قد انصاع للأمر الواقع ورجع عن قراره، خاضعاً لرغبة المتمرّدين وساعياً لإرضائهم على حساب القانون. وهكذا رفع المجمع المقدس مرة أخرى الشذوذ في الكنيسة إلى مستوى القانون. وهذا ما يفسّر، دون ريب، الكثير من الفوضى الظاهرة في الشؤون الكنسية.

  • المجمع المقدس والنظام الأساسي للكنيسة الأرثوذكسية

وإلى هذا فإن قرار المجمع بشأن أبرشية توليدو أوهايو يثير ما هو أخطر من المشاكل وحُسن الرعاية الإدراية. إنه يثير أموراً دينية جوهرية إذ يمسّ بالنظام الأساسي للكنيسة الأرثوذكسية.

فأبرشية توليدو أوهايو، لم يعيّـن لها المجمع حدوداً إقليمية. فحدودها هي حدود أبرشية نيويورك وسائر أمريكا الشمالية ذاتـها، إنما أعضاؤها يتألفون من الرعايا التي ترفض رئاسة السيد أنطونيوس بشير في تلك الحدود. ففي مدينة واحدة، مدينة توليدو أوهايو نفسها مثلاً، توجد رعايا تابعة للسيد بشير ورعايا ترفض رئاسته. هذه الرعايا المنشقّة وعددها سبع رعايا في حدود الأبرشية جعل منها المجمع الأنطاكي أبرشية مستقلّة أي أنه حلّها من الخضوع لرئيس الأبرشية وأنشأ لها رئاسة ثانية ترعاها. ففي مدينة واحدة قامت الآن بفعل قرار المجمع، رئاستان شرعيتان تابعتان للكرسي الأنطاكي. وهذا مخالف للنظام الأرثوذكسي ولللّاهوت الأرثوذكسي.

فمن المقرر في اللاهوت الأرثوذكسي أن الكنيسة الأرثوذكسية تقوم على النظام الأسقفي الذي يفرض رئاسة أسقفية واحدة في أرض معيّنة ولا يُـجيز تعدّد الرئاسات ضمن حدود إقليمية واحدة وذلك لأن الأسقف هو صورة لوحدة الكنيسة في تلك الأرض، والمسؤول عن رعاية المؤمنين فيها. فلا يجوز أن يقوم راعيان لرعية واحدة ولا أن تقوم جماعتان أرثوذكسيتان في مدينة واحدة لأن وحدة الأسرار تفرض وحدة الأسقف الذي يقيمها ووحدة الشعب الذي يشترك فيها ويحيا بـها. وعلى ذلك فإن إنشاء أبرشية مستقلّة في أمريكا الشمالية بإسم أبرشية توليدو أوهايو لها ذات الحدود الإقليمية التي لأبرشية نيويورك وسائر أمريكا الشمالية إنما هو خروج عن التقليد الأرثوذكسي، خروجاً لا يمكن إلا أن يكون معطلاً لمفهوم الكنيسة عند المؤمنين ومثيراً للفوضى والشقاق بين أبناء الكرسي الأنطاكي في أمريكا الشمالية وذلك لتشابك أعمال الرعاية والصلاحيات في أكثر من مدينة هناك.

وبعد، إن قرار المجمع المقدس الأخير لا يمكن أن يكون حلاً لقضية توليدو لأن القضايا الكنسية لا تُحَل بروح الإرتجال والإنفلات من القانون. وقضية توليدو التي نشأت منذ نيّف وربع قرن بسبب انقياد فئة من أبناء الكنيسة للتيار العاطفي وعدم احترامها للقانون، سوف لن تُـحلّ إلا برجوع الجميع، رؤساء ومرؤوسين، إلى رصانة العقل وسلطة القانون ووداعة المسيح.

 

مجلة النور تشرين الثاني 1962، 253-256

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share