عيد الخمسين
الحركة زرع إلهيّ
“أنا أرسلكم لتحصدوا حقلاً لم تتعبوا فيه
غيركم تعب وأنتم دخلتم على تعبه”.
(يوحنا 4: 38).
بقلم الأستاذ ألبير لحّام
يبدو هذا الكلام، للوهلة الأولى، مستغرَباً. فالكنيسة قامت على أساس الرسل، على كرازتـهم وجهادهم واستشهادهم، فكيف يقول الربّ أن غيرهم قد تعب وأنـهم سيجنون ثمرة هذه الأتعاب؟
لقد أوضح الربّ نفسه معنى ذلك إذ قال: “انظروا إلى الحقول كيف ابيضَّت ونضجَت للحصاد. ها هو الحصاد يجمع ثمر الحياة الأبدية فيفرح الزارع والحاصد معاً” ويصدق القول: “إن واحداً زرع وآخر يحصد”.
بعبارة أخرى، إن الربّ قد سبق فزرع الحقل، فهو الزارع وهو الذي ينمّي الزرع ويهيئه للحصاد، وهو الذي ينضح الزرع، فيرسل خدّامه إلى الحقل، إلى نفوس حبلى من الروح القدس لولادة جديدة.
رأيتُ أن أُورد هذا المقطع الإنجيليّ، بمناسبة الذكرى الخمسين لحركة الشبيبة الأرثوذكسية لأنه يساعد على فهم نشوء الحركة وقيامها على أيدي فتيان بين السادسة عشرة من العمر والثامنة عشرة دون أن يكون، ظاهرياً، لأحد في الكنيسة الأنطاكية، يد في نشوئها. والأغرب من ذلك أن الحركة نشأت في مدن مختلفة، في وقت واحد، بدعوة من شبّان لم تكن بينهم أية صلة أو معرفة، حتى إذا اكتشفوا ما كان يجري، هنا وهناك، اندمجت هذه المحاولات في تيّار حركيّ واحد. ثم تبيّن للحركيّين الأوائل أنه في الوقت الذي كانت فيه الحركة تؤسَّس في بلادنا، كانت حركات مماثلة للشباب، تقوم في أنحاء عدّة من العالم الأرثوذكسي، وكأنّ الله قد هيّأ لكنيسته نـهضة شبابـها في أوائل أربعينات هذا القرن، عندها كان يظنّ الكثيرون أن الكنيسة في طور انحطاط لا قيام لها من بعده. لقد صدق أحد مطارنة الكرسي الأنطاكي إذ قال عن نشوء الحركة: إنّـها ثمرة صلوات وآلام ودموع لأجيال من المؤمنين المعذَّبين. فالفضل في ذلك لله وحده، لا للمؤسِّسين الذين وجدوا حقلاً مهيَّئاً للحصاد.
فالحمد لله الذي زرع فرعى، وسقى فأنمى، ما زال يدعو جيلاً بعد جيل، ويرعى. بمعنى آخر، حصدت الحركة ما لم تتعب فيه وجنت ثمار أتعاب غيرها، فالله ليس فيها الزارع وحسب لكنّه الزرع أيضاً. فالحركة لم تدعُ وهي لا تدعو إلى تعاليم من صنعها أو فكر ابتدعته أو طريقة استنبطتها لكنها تدعو الشباب خصوصاً والأرثوذكسيّين عموماً إلى المسيحيّة الأرثوذكسية المبنيّة على أساس الرسل والمجامع المقدّسة. الحركة تدعو إلى كلمة الله كما تسلّمناها بنعمة الروح القدس، في التقليد الحيّ، وإلى العمل بـها، وإلى الأسرار التي يقيمها الأساقفة، خلفاء الرسل، وإلى حياة الشركة الأخوية التي عاشها آباؤنا في الإيمان وإلى تيّار الحياة والفكر والخدمة والشهادة المتدفّقة عبر العصور من الجنب المعطي للحياة والقيامة المقدّسة. كلّ هذا وجده الحركيّون مُعطى لهم مجّاناً، فبنوا على الأساس الموضوع وقالوا للأرثوذكسيّين: هذا مسيحكم فاتبعوه، وهؤلاء قدّيسوكم فاقتفوا آثارهم، وهذا تراثكم فانـهلوا منه. هذه أرثوذكسيّتكم فادخلوا إليها فرحين، فتحيا الكنيسة فيكم وتحيوا، فها إن كلّ شيء هو لكم، أبولس كان، أم أبولوس، أم بطرس، أم العالم، أم الحياة، أم الموت، أم الحاضر، أم المستقبل، كل شيء لكم وأنتم للمسيح والمسيح لله. هكذا كانت الحركة دعوة للشباب والمؤمنين عموماً إلى تكريس الذات للربّ يسوع في الكنيسة المقدّسة لخدمة الإنسان المعاصر. إن تكريس الذات لا ينطلق من الإيمان بأن كلمة الله نزل من السماء من أجلنا نحن البشر عموماً، ومن أجل خلاصنا فحسب، بل ينطلق من وعي أن ابن الله، كما يقول الرسول، “أحبّني وأسلم نفسه من أجلي”، أي أن حبّه اتّـجه إليّ بالذات، وأن بموته شقّ لي شخصيّاً، طريق الحياة، فتقوم بيني وبين المخلّص علاقة شخصيّة حميمة، وأبادل حبّه لي حبّاً، وموته عنّي موتاً عن الخطيئة، وبالتالي أسلم له ذاتي إذ أسلم ذاته من أجلي، فيصبح سيّد حياتي بحيث لا تبقى زاوية منها بعيدة عن نوره.
بـهذا التكريس تقوم الحركة وتستمرّ في الوجود. لا أقصد أن الحركيّين بلغوا فعلاً مرحلة التكريس الكامل. وهذا لا يعني أن مغريات الدنيا، كالجشع والملذّات والتسلّط، لا تطالهم أحياناً وإن كانوا قد رفضوها أمام الربّ، فهم مثل سواهم معرَّضون للسقوط ويسقطون فعلاً في عثار الطريق لأن إبليس كأسدٍ زائر يبحث عن فريسة له في صفوفهم.
وقد قال شاعرهم:
يا يسوع الحبيب نحن خطأة
أعثرتنا الأهواء في دنيانا
كم سقطنا على الطريق مراراً
ونداك الجميل كم قوّانا
قد عرفناك يا يسوع فشدّد
في غثار الطريق ضعف قوانا
لقد آلى الحركيّون على أنفسهم أن يتابعوا الجهاد، رغم السقطات، ليصلوا بنعمة الروح القدس إلى التكريس الكامل للذّات، في صلاة، في خلوات، في صوم، في تيقّظ وسهر على النفس متواصلين، في توبة، في معاشرة للكلمة الإلهيّة حتى هضمها، في شركة الأسرار المقدّسة، في حياة المحبّة الأخوية، والمسامحة والمشاركة.
إن التكريس الحركيّ لا يقف عند هذه العلاقة الشخصية مع الربّ يسوع النابعة من جرن المعمودية. فالذي يُسلم نفسه للسيّد، يقوده إلى خدمة الكنيسة والقريب، بطرق يعرفها هو، فيشدّ الربّ له حذائه ويهيّئه للخدمة في بنيان جسد المسيح.
إن المسيح الذي أَحبّني وأسلم نفسه من أجلي، قد أَحَبَّ الكنيسة وبذل نفسه من أجلها ليقدّسها، ويطهّرها بغسل الماء والكلمة حتى يقيمها لنفسه كنيسة مجيدة لا عيب فيها بل مقدَّسة منَزَّهة عن كل عيب. إن تكريس الذّات للربّ يمتدّ إلى التزام شأن الكنيسة والإنسان لا يستقيم الإنسان إلا إذا نبع من تكريس الذات للسيّد وإلا لكانت الحركة تجري كمن لا يعرف الهدف وتلاكم كمن يضرب الهواء.
هذا ما أتمنّى أن تذكره الحركة باستمرار في عيدها الخمسين، لهذا أحني ركبتَـيَّ ساجداً لأبي ربنا يسوع المسيح، وأتوسّل إليه أن يقوّي بروحه على مقدار غنى مجده، قدرة الإنسان الباطن في الأخوة الحركيين، وأن يسكن المسيح في قلوبـهم، بالإيمان حتى إذا تأصّلوا ورسخوا في المحبة أمكنهم أن يعرفوا محبّة المسيح التي تفوق كلّ معرفة ليمتلئوا بكلّ ملء الله القادر بقوّته الفاعلة فينا أن يفعل أكثر مما نطلبه أو نتصوّره. المجد مع الكنيسة في المسيح يسوع على مدى الدهور. نعم يا رب، اطّلع من علوِّ سمائكَ وانظر وتعهَّد هذه الكرمة وأصلحها باستمرار، بنعمة روحك القدّوس.
أُلقيَت لمناسبة العيد الخمسين في 15/3/1992 في بيروت
مجلة النور نيسان 1992، ص 14