تقصد روما طالباً العلم وأنت الأرثوذكسي الذي يرجو أن يكون ﺑ “لا غش”. “اطلبوا العلم ولو بالصين” مقولة تطبّقها في “المدينة الخالدة” الأقرب إليك، أنت المشرقي، فكرياً وحضارياً ودينياً، من الشرق الأقصى. ولا تنسَ في غمرة همومك أن هذه المدينة العظيمة كانت لفترة عاصمتك وإحدى محجّاتك إلى الله.
تبهرك “شرقية” روما مع كونها عاصمة “الغرب” بمعناه الكنسي. تسحرك فسيفساء كنائسها وتردّك إلى ذاك الزمن الذهبي حيث كانت روما في قلب عالم بيزنطي يرفعك إلى السماويات من خلال فن التصوير والرسم. هذه بعض نتف بيزنطية في عاصمة اللاتين.
تحتار بين كنيستين أرثوذكسيتين، واحدة روسية صاحبها القدّيس نيقولاوس والأخرى يونانية شفيعها القدّيس أندراوس الرسول “المدعو أوّلاً”، مبشّر القسطنطينية ومؤسّس كرسيها. كأن اسم الرعية الأرثوذكسية في روما ليس إلّا تذكيراً للكاثوليكيين الروميين بأن أندراوس هو “الأوّل” وليس بطرس. “حرطقة” يونانية تدعوك إلى الإبتسام وتذكّرك، بآن، أن الصراع مستمر حول “أوّلية” أو “رأسية” بابا رومية “خليفة بطرس” وليس، كما تردّد أنت، أن كلّ أسقف هو “خليفة الرسل جميعاً” وليس خليفة واحد منهم. تذهب إلى الكنيسة اليونانية حنيناً إلى ألحان ألفتها في كنيستك العربية، ترميك في حضرة الله.
تسكن في بيت يسكنه كهنة عديدون، جميعهم كاثوليكيون. تأتي مراتٍ لتحضر قدّاساً لهم، تكتشف أنهم كلّهم يشاركون في الذبيحة، وليس ثمة واحد منوطاً بإتمامها، فتراهم يتلون الكلام الجوهري وصلاة استدعاء الروح القدس. تقدّر أنهم يحاولون، بهذه الطريقة، إيجاد حلّ لمسألة “القدّاس الفردي” الذي يجب على كلّ كاهن كاثوليكي أن يقيمه يومياً. هذا التدبير لا يرضيك وتحاول أن تفهمهم أن المشكلة بقيت قائمة، ألا وهي في من يقيم الذبيحة. إنها مشكلة كنائسانية. المسألة ليست أن يشارك كلّ الكهنة الموجودين في تلاوة نصّ القدّاس. المشاركة الحقيقية تكون بالمناولة المشتركة. كاهن واحد يكفي لإقامة الذبيحة والباقون يشاركون كما العلمانيون من خلال المناولة.
تصدمك معرفة أن الإيطاليين يعطّلون يوم “الحبل بلا دنس” ويعملون يوم “البشارة”، كأن الحبل بمريم “الشريكة في الفداء”، كما يقول أحد أناشيد الكنيسة الكاثوليكية، أهم من الحبل بيسوع “الآتي إلى العالم ليخلّص العالم”. تناقش بعضهم وتلفت نظرهم إلى هذا الأمر طالباً تفسيراً يرضي حشريتك، تأتيك أجوبة “طوباوية” من طراز “لمريم عند الناس ولاء خاص”، طغيان العبادة الشعبية على اللاهوت أساس هذا الإنحراف.
إحدى مظاهر هذه العبادة تتجلّى في السلّم المقدس“La Scala Sancta” ، القريب من كاتدرائية القديس يوحنا اللاتراني. يقال أن المسيح ارتقى عليه في قصر بيلاطيس البنطي، يوم الحكم عليه، وقد نقلته الملائكة من أورشليم إلى روما. يعتقد المؤمنون أنهم اذا صعدوا في هذا السلّم راكعين، تصبح خطاياهم مغفورة آليّاً. صكوك غفران شعبية وليست بالتأكيد بابوية!
تزور كاتدرائية القدّيس بطرس في الفاتيكان، يبهرك لأوّل وهلة كبرها وجمال ألوان رخامها. تعجبك منحوتة مايكل أنجلو “La pietà”، تزعجك بعد برهة تماثيل الباباوات وتماثيل الملائكة على هيئة أولاد صغار يذكّرونك ﺑ “وِلدان” الجنّة القرآنية “الـمُخلَّدين” الذين “إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً”. فنّ عصر النهضة غريب عنك، أنت المشرقي، فهو فنّ يظهر فتونة الأجسام المكتنزة بالشحم واللحم والعضلات أكثر ممّا يُظهر جمال الأجسام الروحي. فيوحنّا المعمدان تراه أقرب إلى شمشون الجبّار منه إلى زاهد أضعفه النسك، وكأنه كان يتلذذ بأطايب هذه الدنيا ولم يكن يقتات “الجراد والعسل البرّي”. تحب أكثر الكنائس المتواضعة حجماً والغنية بالفسيفساء القريبة من فن الأيقونات والمنمنمات، ككنيسة القديسة مريم الموجودة في الحارة الشهيرة باسم اﻟ “Trastevere” وكنيسة القديسة مريم “Maggiore” وبلا شك، كنيسة صغيرة جدّاً اسمها “Santa Praxeda” وغيرها الكثير …
أهمية روما تكمن، دونما ريب، في كونها متحفاً طبيعياً للمريد دراسة تاريخ الفن المسيحي في مختلف أعماره من البدايات إلى يومنا هذا. تذهب إلى السراديب حيث عاش المسيحيون الأوائل لتنحني إجلالاً أمام عظمة إيمانهم، وتسرّ لرؤية بقايا جداريات أهمّها “الراعي الصالح”. تذهب إلى متاحف الفاتيكان حيث تلزمك أيّام عدة لمشاهدة كلّ ما فيه من روائع. تعجبك النواويس، لأنك تلمس في صورها بدايات فن الأيقونة، والإيقونات بقدر ما تعجبك الكنيسة السيكستية الراسمها مايكل أنجلو.
تبقى كلمة حقّ تقال إجلالاً لإيمان أناس يخدمون الكنيسة لأنهم يحبون المسيح ويبحثون عن خلاصهم، أشخاص تركوا كلّ ملاذّ الدنيا ليلتزموا خطّاً جديداً، هو خطّ التبشير بالمسيح وإيصال كلمته إلى حيث هي غائبة. هذا كان قدر “كريستيان شيسّيل”، الشاب الفرنسي المهندس الذي جاهد ﻟ “حفظ نفسه بلا دنس من العالم”، والذي انخرط في عداد مبشّري إفريقيا، واستُشهد في الجزائر. الكنيسة الكاثوليكية يشفع لها المسيح من خلال طلّات كهذه.
مجلة النور، العدد السادس 1995، ص 293-294