فرادة أنطاكية

الأب جورج مسّوح Saturday January 31, 1998 212

ساد الكنيسة في أنطاكية منذ نشأتها الأولى جوّ من الانفتاح على الحضارات كلّها. فكانت هذه المدينة السوريّة العظيمة ملتقى لشعوب عديدة. وتاليًا لأفكار، فتمازجت التّيارات والثقافات على أنواعها لصوغ لاهوت مسيحيّ متنوّع. فيه الساميّ واليونانيّ بشكل أخصّ، وفيه شذرات أخرى من آداب الأجناس الأخرى. لهذا شعر كلّ مَن انتمى إلى المسيحيّة بأنّ هذه الديانة الجديدة إنّما تحترم ثقافاتهم وأنماط عيشهم وأساليب تعبيرهم؛ ولا تعمل من ناحية أخرى على جعلهم كلّهم نسخًا طبق الأصل، ساعية إلى إلغاء فراداتهم.

دفعني إلى هذه المقدّمة ما سمعته منذ شهرين في معهد القدّيس سرجيوس اللاهوتيّ في باريس لمناسبة تقديم كرّاس يتضمّن تاريخ هذا المعهد وصور أهمّ الشخصيّات التي دّرست فيه والتي تخرّجت منه وتبوّأت مراكز كنسيّة. فمن جهة، حدّثني اكثر من أستاذ عن أهمّيّة وجود طلبة أنطاكيين في معهدهم، وذلك لأنّهم “مشهود لهم بالانفتاح، وباختيارهم خطًّا وسطًا بين التيّارين الكبيرَين السائدَين في الكنيسة الأرثوذكسيّة أي التيّار الروسيّ والتيّار اليونانيّ. وهذا يتيح لهم أن يلعبوا دوراً جامعًا للأرثوذكس في العالم”. ومن جهة أخرى حدّثني غير أستاذ عن خوفه من أن يعتري اللاهوت الأنطاكيّ بعض الإنكماش أو التراجع عن مواقف كان مشهودّا لهم بتبنّيها، هذا الخوف متأتّ من “تغيّر الخطاب الدينيّ واللاهوتيّ عند بعض الأنطاكيّين”: لم أعلق على كلامهم لأنّ جوّ الاحتفال لم يكن يسمح بالاستفاضة في تحليل مدى صحّة ما يطلقونه من أحكام.

أمّا بعد، ليت أنّ الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة تستطيع اليوم، -وكلّ يوم- أن تلعب دوراً جامعًا، ولكن يبدو دون ذلك أمور كثيرة ليس أوّلها التراشق – الكلاميّ طبعًا – الموجود بين الأنطاكيّين أنفسهم. أليس الانفتاح والقبول بالتعدّد أو بالتنوّع هما السمة الأولى للأنطاكيّة؟

واقع الحال أنّ القبول بالتعدّد يكاد يكون مفقودًا في بعض الأوساط الكنسيّة التي تعتمد آراء تعتبرها منزلة لا مجال أبدًا للمناقشة فيها. وإذا أراد أحدهم المساءلة فهو قد حاد عن الصراط المستقيم. وفي هذا السياق نشير إلى المديح الذي يكيله الرسول الإلهيّ بولس لتعدّد المواهب في سبيل بناء جسد المسيح الذي هو الكنيسة.

والسؤال الثاني: هل من لاهوت أنطاكيّ فريد يدرَّس؟ وما هي فرادته؟ هل ثمّة لاهوت عربيّ مميّز؟ وما هي ميزته؟ أم أن اللاهوت الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ يشكّل اليوم امتدادًا للأرثوذكسيّات العالميّة؟ وإذا وُجِد هذا اللاهوت الأرثوذكسيّ العربيّ، فهل يسعى الأنطاكيون إلى التعبير عنه وتعليمه بلغة تواصليّة مع المحيط. والمقصود طبعًا هو المحيط المسيحيّ العربيّ من موارنة وأقباط وسريان وأرمن من جهة والمحيط العربيّ الإسلاميّ من جهة أخرى. فلاهوتيّو اليونان ومفكّروها الكبار مثلاً يكتبون بلغات أوروبيّة أكثر انتشارًا من لغتهم الأمّ. لأنّ اليونانيّين أدركوا أنّهم جزء من الشعوب الأوروبيّة ومهمّتهم مكالمة الأوروبييّن. المقصود إذًا تحديد لغة التواصل الأنطاكيّة التي يجب اعتمادها وتعليمها للأجيال الصاعدة.

أين نحن من صوغ لاهوت عربيّ ينبع من هذه الأرض التي شهدت انطلاق المسيحيّة وغيرها من الأديان الكبيرة؟ لاهوت يحدّث العلماء والبسطاء من الناس في آنٍ واحد بلغة مفهومة؟ أين نحن من مشاكل العصر وتحدّياته، وهل تشكّل البيئة همًّا حقيقيًّا أم ترفًا لاهوتيًّا؟ كيف نوقف هجرة المسيحيّين بدعوتهم إلى التجذّر في الشرق العربيّ حيث هم منذ قبل المسيحيّة، ونحن نمعن في تغريبهم – أو تشريقهم لا فرق – عن مشاكل العرب ولغتهم؟

لا بدّ أيضًا من سؤال آخر حول الرهبنات الموجودة اليوم على أرض أنطاكية، وهل ثمّة خصوصيّة أنطاكيّة لها، أو بأقلّ الإيمان خصوصيّة أنطاكيّة مطعّمة بالآثوسيّة أو بغيرها من الخبرات البهيّة في العالم الأرثوذكسيّ؟ والمعروف أنّ التاريخ الأنطاكيّ عرف نمطين من الرهبنات: الرهبنة التأمّليّة – إذا صحّ التعبير – المستوحدة في الأديار، والرهبنة العاملة والخادمة في المجتمع. وكان يجمع هاتين الرهبنتين، وكلّ أنماط الحياة المسيحيّة، الصلاة والحياة في المسيح. وإذا كان ثمّة فرادة رهبانيّة في أنطاكية فهي تكمن في الرهبنة العاملة، ذلك أن الرهبنة التأمّليّة هي خاصّيّة مسيحيّة شاملة. فأين هي؟

الأنطاكيّون مدعوّون إلى استعادة نكهتهم الأولى. التي بدونها لا يعودون أنطاكيّين بالمعنى الكنسيّ للكلمة، بل يكونون أرثوذكسييّن يعيشون في ديار العرب بحسب التقليد الروسيّ أو اليونانيّ أو غيرهما. ألَن نصير ضاحية فقيرة من ضواحي الأرثوذكسيّات العالمية إذا غدونا ككلّ الأرثوذكسيّين في العالم لا يميّزنا شيء عنهم؟ أين تضحي فرادتنا؟

المدينة التي سوف تنزل من السماء يجب انتظارها انتظارًا لا يمنع إحضارها إلى الــ “الآن وهنا”. إذ ذاك أنطاكية هي المدينة.

مجلة النور، العدد الأوّل 1998، 2-3

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share