خِبرتنا وشهادتنا

الأب جورج مسوّح Tuesday March 31, 1998 219

الخبرة يكتسبها الإنسان بعد درس وعمل شخصيّين، وقد يكتسب الإنسان خبرة الذين سبقوه فيجهد لمعرفتها ويتعلّمها ومن ثمّ يقدّم خبرة جديدة ممتدّة منها إلى آفاق جديدة. لا أدّعي أنّني صاحبُ خبرة وشهادة، ما أنوي قوله إنّما هو خبرة جماعةٍ إنجيليّةٍ إفخارستيّةٍ أحبّت السيّد وأخلصت له الودّ، هي جماعةٌ انطلقت من رحم معاناة الكنيسة منذ نيّف وخمسين سنة، أعني حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة.

خبرتنا هي الخبرة التي عاشها الرسل والقدّيسون ونقلوها إلينا في الكتاب المقدّس وبطون الكتب وأمّهات التفسير وحُفظت في البِيَع ومغاور الزهّاد وعيشت في القلوب والعقول والأبصار بعروة وثقى لا تنفّك دائمة. خبرتنا وصلت إلينا بدموعِ التائبينِ وصلواتِ الهاجدين وأدعية الساجدين، هؤلاء الذين لم يتوقوا إلاّ إلى وجهه ذي الجلال والإكرام.

يضيق بي المجال إذا رمت التحدّث عن خبرتنا في ميادينها كلّها. سوف أكتفي ببعضها مّما أراه بارزًا، وبخاصّة هنا حيث نحن اليوم في أرض جبل لبنان.

خبرتنا تقول إنّ التكريس بكلّ أبعاده لشيء أساسيّ، ولفظ “تكريس” لا يُختزل فقط في الخدمة الكهنوتيّة – كما هو سائد في أذهان الناس – بل يتعدّاه إلى كلّ الوظائف التي تساهم في بناء الكنيسة الجسد، ذلك أنّ التكريس يفيد أوّلاً تخصيص النفس لخدمة الله من خلال الجهاد الشخصيّ في الكهنوت والتعليم والوعظ والخدمة والرهبانيّة، وقد لا يكون التكريس في هذه كلّها بل في الحضور مع الأخوة والتزامهم في المحبّة والصلاة والصوم والحياة. مع ذلك فالحركة ورشة مستمرّة ما انفكّ يظهر فيها يومًا بعد يوم الكهنةُ والشمامسةُ والرهبانُ. هؤلاء الكهنة الجدد يساهمون في تلبية حاجات المؤمنين في بعض الرعايا حيث لا كهنة، ولكنّ عددهم لا يكفي، فما زالت الحاجة إلى كهنة همًّا يلاحق الأساقفة.

خبرتنا تقول إنّ الحياة المسيحيّة تتجلّى في الرعيّة أوّلاً، فالمسيحيّ يولد وينمو ويموت في الرعيّة، والرعيّة في القدّاس الإلهيّ هي الكنيسة الجامعة كلُّها وليست بعضَها. شهادتنا في الرعيّة تكمن في مساعدة الكاهن في الخدمة الاجتماعيّة والتعليم وحضورنا الفاعل الودود مع المؤمنين. ذكرت الخدمة الإجتماعيّة أوّلاً لأنّ الفقير والمحتاج والعاجز والأرملة هم أيضًا طريقُنا إلى الملكوت أو منزلقُنا إلى الجحيم. أمّا التعليم فلأنّ موهبة التعليم ليس محصورة بالكهنة، وحضورنا بديهيّ.

لقد أثبتت الحركة أنّها مجال درس وعمل للراغبين في عيش روحيّ – نسبة إلى الروح القدس – كما بيّنت بوضوح أنّ وجودها في رعيّة من الرعايا إنّما هو دليل ساطع على غنى هذه الرعيّة. ليس من انقطاع أو تضادّ بين عملها وعمل الرعيّة. الحركة نكهة طيّبة من نكهات الرعيّة وتاليًا من نكهات الكنيسة. لقد أعطيت الحركة أن تشهد في الرعيّة فلتشهد الشهادة الحسنة.

تقول خبرتنا إنّ دراسة الكلمة الإلهيّة لا تنفصل عن الحياة، لذلك فالمجال الأحسن لدراستها إنّما هو الفرق الحركيّة، والفرقة في أدبنا الحركيّ مصلّيةٌ ودارسة وشاهدة. ليس همّنا أن يتكاثر اللاهوتيّون والعارفون في هذا الاختصاص أو في ذاك، بل غايتنا أن يبني الراغبُ في العلم الإلهيّ والمعرفةِ نفسَه بالترافق مع التوبة والصلاة والتواضع أي بالمحبّة، وهذه يعيشها مع إخوته في الفرقة. طبعًا رجاؤنا أن تغدو الرعيّة كلُّها مصلّيةً ودارسةً وشاهدةً فتكون هي المجال.

لا نغفل عندما نتحدّث عن الشهادة في الرعيّة أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة أسقفيّةٌ، أي قائمةٌ على الأسقف المقام من الله ومن المؤمنين مؤتمنًا على الإيمان والتعليم والإدارة. ولا شكّ أنّ الحركة – ولا تهمّ التسمية هنا – تقوم أو يجب أن تقوم في الأبرشيّات بالدور الذي تقوم فيه على مستوى الرعيّة. شهادتنا هي أن نجعل من الأبرشيّات مطارح تجلّيات إلهيّة.

تقول خبرتنا إن التواصل بين المؤمنين ضروريّ لجعل الوحدة منظورةً في الكنيسة. لا شكّ أنّ الوحدة تتجلّى في سرّ الشكر الذي به يتمّ اتحادُ المؤمنين بالمسيح. ولكنّ اللقاء بين المؤمنين من مختلف الأبرشيّات يساهم في جعل هذه الوحدة ملموسة، ويجعل المشكلات التي تعصف بالكنيسة عامّة أو بإحدى الأبرشيّات همومًا مشتركة يتعاضد الكلّ في سبيل حلّها، من دون إغفال رئاسة الأسقف وبركته. كذا الأمر بالنسبة إلى الرعايا في الأبرشيّة الواحدة. الحركة بلا ريب انتبهت إلى أهميّة هذا التواصل منذ انطلاقتها وهي مقتنعة بحسناته لذا تساهم في جعل هذا الأمر واقعًا.

الشهادة بحاجة إلى آخر، ذلك أنّ الشهادة لا يمكن أن تكون ذاتيّة، ولا معنى لشهادتي إذا لم يكن ثمّة مشهودٌ إليه. الشهادة لن تبطل إلاّ في اليوم الأخير حيث تُكشف الحقيقة بملئها ولا مجال بعد ذلك لأيّة شهادة. وقد جَعَلَنا اللهُ في بلادٍ الآخرُ فيها كثيرٌ. أن نشهد ليسوع المسيح الناصريِّ الإنسان إلهًا متجسّداً ومائتًا على الصليب يفترض بنا أن نجسّد فينا قيم الإنجيل حتّى يصدّق الآخر ما نؤمن به وإلاّ فنحن جاعلون الإنجيل مجرّد مثاليّات لا يطبّقها إلّا قليل من الناس. شهادتنا تصبح معكوسة وتحجب المسيح إذا كان ما نشهد به كلامًا من دون فعل. لا شكّ أيضًا أنّنا بحاجة إلى نحت لغةٍ جديدةٍ أو لغاتٍ عديدةٍ لكي نخاطب بها الآخر فيفهمنا ويفهم إيماننا بلغته وعقله.

لا بدّ من القول أيضًا إنّ الحركة نهضويّة بمعنى أنها وعت أنّ المسيح قام وقد خَلّصَنَا فنهَضَتْ معه والتزمَتْ الكنيسةَ لكي تجعلَها على صورة سيّدها قائمةً لا لوحةً في متحف. كما سعت إلى نشر الـمَعرفة والعودةِ إلى الينابيع الأولى لتتدفّق مجدّدًا في عصرنا. الحركة فتحت كنائسَ ظُنّ أنّها اندرست وديارات اعتُقد أنها بادت ونفضت الغبار عن الكتاب المقدّس وكتب الآباء والكتب الطقسيّة وساهمت في نشر ما تيسّر من الكتب الأساسيّة للمعرفة الدينيّة. وما زال ناس الحركة كقدمائها يجاهدون الجهاد الحسن، ذلك أنّ ثمة كنائسَ ذاهبة إلى الزوال – والله يسمح بزوال كنيسته إذا لم يكن هناك شعب أو قائم يتعهّدها – هنا تضعنا عودة أهل الجبل أمام التحدّي، الحاجة إلى عملة كبيرةٌ والحركةُ ملتزمةٌ الصعودَ مع الصاعدين إلى حيث سيُسبّح للّه بالغُدُوّ والأصال.

قال الربُّ يسوعُ: “إنّ من قال لهذا الجبل انتقل واهبِط في البحر وهو لا يشكُّ في قلبه بل يؤمن بأنّ ما يقوله يكون فإنّه يكون له” (مرقس17: 23). نحن لا نريد رمي الجبال في البحر بل نريد بإذنه هو رفعَ جبلِ لبنان وكلِّ جبال الأرض ووهادِها إلى السماء. صلاتنا أن يكون قولنا – والقول هو الكلمة – فاعلاً فلا يعود خائبًا.

أن ننسى لا ننسى أن نذكر رجلاً ولدَ الحركة ولم يغادرها بل سهر عليها سهر الأمّ الرؤوف، فصار أبًا لكثيرين. نحن ليس من شيمنا أن نقتل آباءَنا، طبعًا أعني القتل المعنوي بالابتعاد عن فكرهم وسلوكهم. نحن نحيا بأقوالهم ونجعل أقوالهم حيّةً بنا.

المسيح قام.

مجلة النور، العدد الثاني 1998، 85-88

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share