لا ريب في أنّ الكثير من المشكلات الموجودة بين البشر إنّما يعود أحد أسبابها إلى افتقاد لغة تخاطب مشتركة تشكّل حدًّا أدنى من قاسم مشترك بينهم. فثمّة ألفاظ وعبارات لها معانٍ ودلالات عند البعض لا يوافقهم البعض الآخر عليها. و “العبارة”، لغةً، هي “الألفاظ الصحيحة الدالّة على المعاني المركّبة تركيبًا فصيحًا بليغًا”. أمّا “التخاطب” فيعني “توجيه الكلام نحو الغير للإفهام”. فإذا لم يكن هناك اتّفاق بين فريقين أو أكثر على معاني الكلمات التي ينطقون بها، فهذا لا بدّ مؤدٍّ إلى سوء تفاهم وتراشق كلاميّ، وأحيانًا قد يؤدي هذا إلى حُرُمٍ وانشقاقات وحروب لا طائل منها.
ولسنا نعني في التخاطب، هنا في هذه العجالة، التخاطب بين المسيحيّين وغيرهم من أصحاب المعتقدات الأخرى وحسب. إذ إنّ الشرخ الدلاليّ للألفاظ في هذا الميدان واسعٌ جدًا وسحيق، والعمل لرأبه ما زال في بداياته. ولا بدّ هنا من القول إنّ المسيحيّين يتحمّلون أوزارًا كغيرهم في عدم الوصول إلى لغة مسيحيّة – خصوصًا في مجال العقائد – مفهومة عند دارسيها أو المهتمّين بمعرفتها عند غير المسيحيّين، هذا إذا لم نتطرّق إلى مدى فهمها عند عامّة المسيحيّين. وجليّ هنا أنّ ما نقصده هو عبارات مسيحيّة غير مستعمَلة عند غيرهم كمثل عبارات “الثالوت الأقدس” و “الأسرار” وغيرها، ممّا ينشئ لبسًا لدى المتلقيّ.
أمّا إذا استعرضنا عبارات واحدة موحّدة يستعملها العديد من أصحاب العقائد فنجد أنّ كلاًّ منهم يستعملها في مدلول مختلف، وهذه الملاحظة تصحّ أيضًا عند أصحاب الدين الواحد الموزّعين على مذاهب شتّى. فمفاهيم “النبوءة” و “الوحي” و “الكتاب” و “كلمة الله”، مثلاً، ليس لها في المسيحيّة المعنى ذاته الذي لها في الإسلام. كما أنّ عبارة “كلمة الله” ليس لها المعنى ذاته عند البروتستانت كما عند الكاثوليك … وهذا الموضوع يطال أيضًا الميدان الوطنيّ، فألفاظ ﻛ “مواطنة” و “ديموقراطية” و “حريّة” و “حقوق الإنسان” كلٌ يفهمها على هواه.
وإذا كان هناك مخاطب، فالمفترض أن يكون ثمّة مخاطَبٌ أو متلقّ. وغالبًا ما تكون مفاهيم المخاطَب غائبة عن ذهن المخاطِب، بمعنى أنّ هذا الأخير يقول ما يريد قوله من دون الاهتمام بأن يكون الآخر فاهمًا هذا القول. فيكون الخطاب آنئذ مبتورًا من دون فائدة، وكأنّه رسالة من دون عنوان تتيه في مكاتب البريد ثمّ ترمى في سلة مركونة في الزاوية. هاجس المتلقّي ينبغي أن يكون أساسيًّا عند كلّ إنسان يريد إيصال رسالته وفكره وإيمانه وعقيدته. وهذا يعني أن يكون الخطاب الأرثوذكسيّ مفهومًا من المسيحيّين الآخرين والمسلمين الموجودين معنا في العيش الواحد.
إذا لم يكن من سبيل إلى لغة واحدة تتألف من ألفاظ متّفق على دلالاتها، فعلى الأقلّ ينبغي للإنسان الّذي يبغي دراسة إيمان الآخر أن يدخل في منطقه ومعاني كلماته، لا أن يلقي بمفاهيمه على أقوال الآخرين ليحكم عليها بصحّتها أو ببطلانها. ذلك أنّ كلّ معتقد هو بمثابة عمارة إيمانيّة وفكريّة متكاملة، ومَن شاء أن يكتشف هذا المعتقد أو ذاك، عليه الولوج إلى تلك العمارة المتكاملة ليراها من داخلها فيكتشف كلّ ما فيها ويعيه حقّ معرفته. أمّا إذا بقي خارج هذه العمارة فهو، بلا شكّ، كمثل من يسلّط عليها أضواء من الخارج فيرى جدرانها الخارجيّة فقط، فيتهيّأ له أنّ ما يراه إنّما هو العمارة كلّها. إلاّ أنّ واقع الحال يقول، في حالة كهذه، إنّ فكره حولها يبقى ناقصًا لا بل مشوّهًا.
هل يجب أن يكون الخطاب الأرثوذكسيّ من أجل ذلك موحّدًا؟ الجواب البديهيّ هو لا، فالتعداد ثراء والاختلاف رحمة، أمّا الخلاف فمحظور. إنّما يجب أن يستعمل الأرثوذكس لغة واحدة في ما يخصّ العبارات والألفاظ الدلاليّة، فيكون خطابهم مفهومًا من كلّ الناس وليس حكرًا أو امتيازًا علميًّا لفئة على فئة. هل هذا يتطلب تغييرًا في اللغة لا في المضمون؟ نعم، فلقد عبّر الأقدمون بلغتهم وثقافة عصرهم السائدة آنذاك عن إيمانهم ومعتقدهم، فلمَ لا يحقّ لأبناء هذا الجيل أن ينحتوا عبارات أخرى للتدليل على الإيمان نفسه الذي وصلهم من آبائهم عن أجدادهم؟
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا كلّه يتطلب مسبقًا وقبل أيّ خطوة في أيّ اتّجاه أن يعترف الأرثوذكس بأنّ التخاطب مفقود – أو شبه مفقود، إذا رمنا التفاؤل – في ما بينهم، أي أن يقرّوا، بحسب الصورة التي رسمناها آنفًا، أنّ عمارتهم اللاهوتيّة والحياتيّة ليست مؤلّفة من شقّة واحدة أو من طابق واحد، بل من طوابق عدّة ومن شقق مختلفة … لذلك فإنّ ما نرتجيه هو ألّا يتمترس كلّ عارف بميدان من ميادين اللاهوت االمسيحيّ بما استلمه أو حصّله من خلال الدرس والانكباب على طلب العلم، وكأنّ ميدانه هو وحده المفيد والناجع؛ وألاّ يتمترس كلّ صاحب منهج من مناهج الحياة بكون ما انتهجه إنّما هو الطريق الوحيد إلى الخلاص … هذا هو بدء التخاطب.
إنّ ما ينقصنا هو لغة تخاطب في ما بيننا تفتح لنا آفاقًا ما زالت ملبّدة بالغيوم، لغة تجعلنا نقبل بعضنا بعضًا أوّلاً، حتى تصل كلمة الحياة إلى العالم فيسمعها في قلبه.
مجلة النور، العدد السابع 1998، 338-339