سرّ الشكر، والجماعة الكنسيّة

ألبير لحام Friday April 7, 2000 468
  • سرّ الشكر، سرّ اجتماع الجماعة الكنسيّة

في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس (11: 23-26) يقول الرسول بولس:

“إنّي تسلّمت من الربّ ما سلّمتكم أيضًا. أنّ الربّ يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزًا وشكر وكسر وقال: “خذوا كلوا، هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري”. كذلك الكأس بعد العشاء قائلاً: “هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلّما شربتم هذه لذكري”. فإنّكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الربّ إلى أن يجيء”.

عملاً بـهذه الوصيّة الخلاصيّة أخذ التلاميذ، منذ أيّام الرسل، يجتمعون معًا برئاسة الرسل وخلفائهم من الأساقفة ليذكروا تجسّد الكلمة وآلامه وصلبه وموته وقيامته وجلوسه عن يمين الآب منتظرين مجيئه المجيد، شاكرين الله (ومن هنا كملة Eucharistia أي الشكر) ومسبّحين، مطالعين النبوءات والكتب، مستمعين إلى تعليم الرسل والأساقفة، كاسرين الخبز ومتناولينه، شاربين كأس البركة عالمين أنّ الخبز الذي يكسرون هو شركة جسد المسيح وأنّ كأس البركة التي يشربونـها هي شركة دم المسيح (1 كو 10: 16).

يقول كتاب أعمال الرسل إنّ الذين اعتمدوا و”قبلوا عطيّة  الروح القدس”، بعد كرازة بطرس يوم العنصرة، “كانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات” (2: 42). وهذه إشارة إلى اجتماعهم لإقامة سرّ الشكر، لأنّ “كسر الخبز” هو أحد الأسماء المعطاة في أعمال الرسل ورسائل بولس الرسول لهذا السرّ. ويؤكّد هذا الاجتماع السرّيّ ما ورد في العدد 44: “وجميع الذين آمنوا كانوا في مكان واحد” Epi to avto، وفي الترجمة العربيّة “كانوا معًا”، وقد أصبحت العبارة “الاجتماع في مكان واحد” مرادفة للاجتماع الأفخارستيّ. ففي الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس يقول الرسول، مشيرًا إلى اجتماع أهل كورنثوس المؤمنين لإقامة سرّ الشكر “حين تجتمعون في مكان واحد” (1 كو 11: 20) لأكل “عشاء الربّ”. وفي الترجمة العربيّة أيضًا “حين تجتمعون معًا”. وكان الرسول قد قال في العدد 18 من الأصحاح ذاته: “حين تجتمعون في الكنيسة”، ومن البديهيّ أنّه لم تكن في عصر الرسل كنائس مبنيّة، والمعنى هنا “حين تجتمعون ككنيسة” أو حين تعقدون الاجتماع الكنسيّ. واضح من سياق الإصحاح 11 بعد العدد 17 أنّ الرسول يتناول أمورًا تتعلّق بالاجتماع لكسر الخبز أو أكل عشاء الربّ ويسمّي هذا الاجتماع “كنيسة”. وجاء أيضًا في الإصحاح 14 العدد 23 من الرسالة “متى اجتمعت الكنيسة كلّها في مكان واحد” مبينًّا أنّ الكنيسة كلّها تجتمع معًا لإقامة سرّ الشكر. وفي الرسالة إلى العبرانيّين 10: 25 يوبّخ الرسول الذين يهملون هذا الاجتماع.

ومن الإصحاح 20 من سفر الأعمال، العدد السابع، نعرف أنّ اجتماع المؤمنين معًا لإقامة عشاء الربّ إنّـما كان يجري في أوّل الأسبوع، أي يوم الأحد، حيث جاء “في أوّل الأسبوع إذ كان التلاميذ مجتمعين ليكسروا الخبز، خاطبهم الرسول بولس”. والأمر عينه نفهمه من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس الإصحاح 16 العدد 2، إذ يقول الرسول: “في كلّ أوّل أسبوع”، أي في الاجتماع العامّ للكنيسة، “ليضع كلّ واحد منكم ما تيسّر” لإرساله مساعدة إلى كنيسة أورشليم في ضيقتها. وهذا ما يثبت أنّ الاجتماع لكسر الخبز كان يتضمّن بالإضافة إلى الكلمة وإلى إقامة عشاء الربّ جمع ما تيسّر لأجل الأخوة المحتاجين.

وفي السنة 107/110 مسيحيّة يوكّد القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ أنّ سرّ الشكر هو سرّ الجماعة المؤمنة وأنّ على المؤمنين المقيمين في مدينة واحدة أن يجتمعوا معًا لإقامة هذا السرّ. ففي طريقه إلى رومية حيث كان مزمعًا أن يستشهد طعامًا للأسود، كان القدّيس يوجّه رسائله إلى الكنائس، أي إلى المؤمنين المجتمعين في كلّ مدينة، يحثّهم على الاجتماع برئاسة الأسقف لهذا الغرض. يقول في رسالته إلى أهل أفسس:

“اعقدوا اجتماعات متواترة لترفعوا إلى الله شكركم (أفخارستيّتكم) وتسابيحكم لأنّه متى اجتمعتم تبيدون قوّة الشيطان التي تتلاشى أمام إيمانكم” (13)، وأيضًا: “من يبتعد عن المذبح يحرم نفسه من خبز الله… إنّ عدم حضور اجتماع الجماعة هو عمل كبرياء يضع المرء نفسه خارج الشركة” (أي خارج الكنيسة) (5).

ويقول في الرسالة إلى أهل مغنيسيا:

“(7) – أسرعوا لتجتمعوا جميعًا في هيكل الله الواحد، عند قدمي المذبح أي يسوع المسيح الواحد الذي خرج من الآب الواحد وما زال متّحدًا به وعاد إليه”. وأيضًا: “عبثًا تمدحون العمل الفرديّ. ليس صالحًا إلاّ ما تعملونه معًا. صلاة واحدة، تضرّع واحد، روح واحد، رجاء واحد، تحييه المحبّة في الفرح: هذا هو يسوع المسيح الذي هو فوق كلّ شيء”.

وحوالي العام 150م يذكر القدّيس يوستينوس الشهيد اجتماع الكنيسة لإقامة سرّ الشكر (كما يذكر اجتماعها لإقامة سرّ المعموديّة الذي كان يليه سرّ الشكر). يقول في دفاعه الأوّل العدد 67:

“في اليوم المسمّى يوم الشمس (أي الأحد Sunday) يجتمع جميع الذين في المدينة والقرى في مكان واحد. نقرأ مذكّرات الرسل (أي الأناجيل والرسائل) وكتابات الأنبياء على قدر ما يسمح الوقت بذلك. ثمّ الذي يرأس الاجتماع يعظ للتنبيه وللحثّ على اتّباع تلك التعاليم. ثمّ نقوم جميعًا ونصلّي معًا. وعندما تنتهي الصلاة يؤتى بالخمر مع الخبر والماء. ويرفع المترئّس الصلوات والتشكّرات Eucharisties  ويجيب الشعب بـهتاف “آمين” ثمّ توزّع الأفخارستيّا على كلّ واحد… نجتمع معًا في يوم الشمس لأنّه اليوم الأوّل الذي أخرج فيه الله المادّة من الظلمة وخلق العالم ولأنّه في هذا اليوم ذاته قام يسوع المسيح مخلّصنا من بين الأموات”.

ويضيف القدّيس يوستينوس أن القرابين كانت ترسل بواسطة الشمامسة إلى المرضى في بيوتـهم وأنّ “الميسورين يعطون ما يشاؤون وما يجمع هكذا يسلّم إلى المترئّس لمساعدة اليتامى والأرامل والفقراء، والذين في الأمراض، والأسرى والغرباء وجميع المحتاجين”.

ويثبت هذا النّص أنّ شكل الاجتماع لإقامة سرّ الشكر كان واضحًا من ذلك التاريخ: اجتماع الجماعة كلّها برئاسة الأسقف في مكان واحد، تلاوة الكتاب المقدّس في العهدين القديم والجديد، الوعظ، الشكر وكسر الخبز ومباركة كأس الخمر والماء توزيع القرايبن للمناولة، وجمع ما تيسّر لمساعدة المحتاجين.

ومع امتداد المسيحيّة في القرى ونموّ عدد المسيحيّين في المدينة الواحدة، صار الذين في القرى يجتمعون برئاسة معاوني الأساقفة (خور أسقف أي أسقف القرية) والذين يتوزّعون على الرعايا برئاسة الكاهن مندوب الأسقف. وظلّ التأكيد على ضرورة اجتماع الكنيسة كلّها في مكان واحد لإقامة سرّ الشكر برئاسة الأسقف أو من ينتدبه: فقد جاء في كتاب الذيذسكاليا السريانيّة التي تعود إلى القرن الثالث مسيحيّ، أن من واجبات الأسقف أن:

“علّم ومر وأقنع الشعب على أن يبقى أمينًا للاجتماع في الكنيسة. فلا يتخلّف أحد بل أن يجتمع الجميع حتّى لا تتقلّص الكنيسة بعدم الاشتراك هذا ولا يحرم جسد المسيح أحد أعضائه. لا تحرموا الربّ من أعضائه ولا تبتروا جسده”.

إنّ الطابع الجماعيّ لسرّ الشكر وللأسرار الكنسيّة عمومًا لم يعد واضحًا في ذهن الشعب في يومنا وذلك بسبب الفتور الدينيّ وبتأثير الفكر الغربيّ الشائع الذي يتّسم بطابع الفرديّة. وهكذا فسرّ المعموديّة والميرون أضحى وقفًا على عائلة المعتمد ولم تعد له علاقة بالرعيّة التي ينضمّ إليها عضو جديد، كما كان أصلاً. وسرّ الزواج أضحى وقفًا على عائلتيّ الزوجين وأصدقائهما، وسرّ مسحة المرضى كاد يزول من ممارسة الشعب إلاّ قليلاً. وأمّا سرّ الشكر فهناك من يعتقد أنه مجرّد اجتماع للصلاة متذرّعًا بأنّ الربّ أوصى بأن يدخل المرء إلى غرفته للصلاة، جاهلاً أن الغرفة التي ينبغي أن ندخل إليها في الصلاة ونغلق بابـها إنّـما هي القلب، وأنّ الربّ أكّد حضوره حيث يجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه. وكما يقول أغناطيوس الأنطاكيّ: “إذا كان اجتماع شخصين للصلاة له هذه القوّة، فكم بالأحرى صلاة الأسقف متّحدة بصلاة الكنيسة كلّها” (أفسس: 5). هذا مع العلم أنّ سرّ الشكر لا يقام للصلاة فحسب بل لذكرى موت المسيح وقيامته حسب وصيّته الخلاصيّة.

ثمّ هناك من يتصوّر أنّ القدّاس الإلهيّ يقيمه الأسقف أو الكاهن وأنّ المؤمن يأتي إلى الكنيسة “لحضور القدّاس” والإفادة من تناول جسد الربّ ودمه. في حين أنّ القدّاس الإلهيّ، كما رأينا، تقيمه الكنيسة كجماعة الذين اعتمدوا بالمسيح وأضحوا أعضاء في جسده فلا فرديّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة بل شركة سرّيّة وجسد واحد فيه مواهب مختلفة لكنّه متّحد بالرأس وعامل معه وفيه. لأنّنا كلّنا، يقول بولس الرسول، “بروح واحدة اعتمدنا لنكون جسدًا واحدًا” (1 كو 12: 13). ورأس هذا الجسد هو المسيح “رأس الجسد أي الكنيسة” (كو 1: 18) الذي رفعه الله فوق كلّ شيء “وجعله رأسًا للكنيسة التي هي جسده” (أف 1: 22-23). وجسد المسيح بحسب تعليم الكتاب وآباء الكنيسة ليس جسد يسوع الناصريّ فحسب بل جميع الذين، بالإيمان والمعموديّة، صاروا أعضاء في الطبيعة البشريّة التي ألّهها الكلمة بتجسّده. “إنّنا أعضاء جسده من لحمه ومن عظامه” (أف 5: 30)، وكأنّـما المسيح الكامل، أي الرأس والأعضاء، هو المسيح والكنيسة. لذلك يقول الرسول بولس إنّ الكنيسة “ملء المسيح” (أف 1: 23). يقول القديس أغناطيوس الأنطاكي:

“المسيح يدعوكم إليه أنتم أعضاءه لأنّ الرأس لا يكون بدون الأعضاء”.

فالجماعة الكنيسة برئاسة الأسقف، متّحدة بالمسيح، الكاهن الأوحد والذبيحة الوحيدة المقبولة لدى الله، أي المقرِّب والمقرَّب كما نقول في القدّاس، ترفع بالروح القدس إلى الثالوث الأقدس ذبيحة الإبن الوحيد لغفران الخطايا وحياة العالم. هذا هو المفهوم الأرثوذكسيّ. وإذا تأمّلنا في خدمة القدّاس الإلهيّ نتبيّن أنّ الخدمة تقيمها الجماعة الكنسيّة لأنّ صلاة الكاهن يوجّهها إلى الله بصيغة الجمع، أي بإسم الجماعة، ولأنّ الجماعة تؤكّد ذلك بالهتاف “آمين”، طبعًا ما عدا البركة والسلام اللذين يعطيهما الأسقف بإسم يسوع المسيح.

ثمّ الذين قبلوا الربّ واعتمدوا إنّـما ولدوا ولادة جديدة بالماء والروح (يو 3: 5)، ولادة ليست من لحم ولا من دم ولا من مشيئة رجل (يو 1: 13)، وماتوا إلى آدم الأوّل واتّـحدوا بآدم الثاني إذ دفنوا معه في المعموديّة وقاموا معه إلى حيث هو قائم عن يمين الآب (أف 2: 4-6)، وأضحوا بذلك مفروزين من العالم، “شعبًا جديدًا مفتدى بالدم الإلهيّ، أمّة مقدّسة، كهنوتًا ملوكيًّا لكي يخبروا بفضائل الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بط 2: 9). وهذا الشعب الجديد إذ يقيم سرّ الشكر، يخرج أوّلاً من العالم – وهم ليسوا من العالم (يو 17: 16) – كما خرج إسرائيل القديم من عبوديّة مصر، ليأتوا إلى الاجتماع المقدّس ويسيروا معًا في القدّاس الإلهيّ نحو أرض الميعاد، الملكوت الذي أسّسه الربّ يسوع وهو قبلتهم الأخيرة، يتغذّون في مسيرتـهم هذه بالجسد المكسور والدم المهرق، موضحين حقيقة ما كان ظلاً في العهد القديم، أي “إنّ آباءنا كلّهم عبروا البحر وكلّهم أكلوا طعامًا روحيًّا واحدًا وكلّهم شربوا شرابًا روحيًّا واحدًا من صخرة روحيّة كانت تتبعهم، والصخرة كانت المسيح” (1 كو 10: 1-4).

الجماعة الكنسيّة إذ تجتمع لإقامة سرّ الشكر، إنّـما تستحضر بالروح القدس موت الربّ وقيامته “إلى أن يجيء” لتتّحد بموته وقيامته وتنتظر مجيئه المجيد، عالمة أنّ الربّ يسوع إنّـما مات “ليجمع أبناء الله المتفرّقين إلى واحد (يو 11: 52). وهو في صلاته عشيّة موته صلّى طالبًا أن يكون تلاميذه واحدًا مثلما هو والآب واحد “أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا كاملين في الوحدة” (يو 17: 23). صلاته هذه هي التي تصهرنا معه بصورة سرّيّة بنعمة الروح القدس إذ نتناول الخبز الواحد والكأس الواحدة. “من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه” (يو6: 56). ولذلك فإنّ القدّاس الإلهيّ هو أيضًا سرّ وحدة الجماعة بحلول الروح القدس عليها وعلى القرابين. “فإنّنا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد واحد لأنّنا نشترك في الخبز الواحد” (1 كو 10: 17)، وأيضًا “جسد واحد وروح واحدة، رجاء واحد، ربّ واحد، إيمان واحد، معموديّة واحدة، إله وآب واحد الذي هو على الكلّ وبالكلّ وفي الكلّ” (أف 4: 4-5)، الذي تسبّح الجماعة “بفم واحد وقلب واحد اسمه الكلّيّ الإكرام والعظيم الجلال”.

أخيرًا، سرّ الشكر هو عشاء الربّ (1 كو 11: 20) وهو “كأس الربّ” و”مائدة الربّ” (1 كو 10: 21) المائدة التي تجلس إليها عائلة الربّ الذين بالإيمان والمعموديّة أصبحوا “رعيّة مع القدّيسين وأهل بيت الله”، على حدّ قول الرسول (أف 2: 19). وإذ كانت العائلة العبريّة تجتمع برئاسة ربّ العائلة لإحياء الفصح الناموسيّ الظلّيّ، أسّس الربّ يسوع سرّ الشكر في العشاء السرّيّ لكي يجتمع “أبناء الله” لإحياء الفصح الحقيقيّ الخلاصيّ الذي بموت الربّ وقيامته. فالاجتماع الأفخارستيّ هو اجتماع العائلة إلى مائدة ربّـها وهو عربون وليمة عرس الحمل (رؤ 19: 9) في الملكوت. يقول الربّ لتلاميذه “أنا أعطيكم ملكوتًا كما أعطاني أبي لتأكلوا وتشربوا معي على مائدتي في ملكوتي” (لو 22: 30)، والكنيسة هي المنزل السرّيّ الذي يريد الربّ أن يأكل فيه الفصح مع تلاميذه (لو 22: 11)، فلا يليق بأحد أن يرفض الدعوة لئلا يبقى خارج الملكوت. “المائدة مملوءة، يقول الذهبيّ الفمّ، العجل سمين، فلا ينصرفنّ أحد جائعًا”… “لأنّ المملكة العامّة قد ظهرت”!.

 

 

  • سرّ الشكر، سرّ الكنيسة الجامعة

سرّ الشكر هو تاليًا، سرّ الجماعة بمقدار ما هو سرّ الملكوت، هو سرّ الجماعة في سيرها إلى الملكوت. وهذا ما يوحيه بناء الكنيسة بالذات حيث تجتمع الجماعة. فالهيكل يمثّل السماء وصحن الكنيسة حيث تجتمع الجماعة يمثّل الأرض في اتّـجاهها إلى الهيكل أي إلى الملكوت. هنا تتّحد الأرض بالسماء وتصير هيكلاً مقدّسًا لله، هنا الأيقونات تؤكّد حضور القدّيسين معنا، حسب قول الرسالة إلى العبرانيّين، في الإصحاح 12، العدد الأوّل: “نحن محاطون بسحابة من الشهود هذا عددها”. هنا الملائكة ترفع صلوات الجماعة مع البخور إلى عرش الله وإلى الحمل (رؤ 5: 8-8: 3). هنا في القدّاس الإلهيّ، في اجتماع الجماعة، تدخل الملائكة الهيكل مع الأسقف والكاهن حامل الإنجيل أثناء الإيصودون الصغير، هنا الجماعة، ممثّلة الشاروبيم سرّيًّا، تنشد مع الملائكة نشيد الظفر المثلّث التقديس متّحدًا بـهتاف أولاد أورشليم “مباركٌ الآتي باسم الربّ”. هنا السيّدة العذراء الكلّيّة النقاوة تقوم عن يمين الملك على الصينيّة المقدّسة ومعها طغمات الملائكة والسابق المجيد والرسل القدّيسين، هنا يمثل الأحياء والأموات – وهؤلاء أحياء في جسد الربّ الحيّ – ليغتسلوا بدم الحمل بعد الخدمة، هنا الخليقة المادّيّة التي اتّـخذها الربّ بتجسّده والتي تئنّ وتتوجّع متوقّعة استعلان أبناء الله (رو 8: 19-22)، تتمثّل في الخبز والخمر والماء التي ستصبح جسد الربّ ودمه، عربون السماء الجديدة والأرض الجديدة اللتين تنتظرهما (2 بط 3: 13 ورؤ 21: 1). هنا في القدّاس الإلهيّ، نختبر ما جاء في الرسالة إلى العبرانيّين الإصحاح الثاني عشر، العدد 22 إلى 24:

“لقد أتيتم إلى جبل صهيون إلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماويّة وإلى ربوات الملائكة في محفل عيد، وإلى كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماوات وإلى الله ديّان الجميع وإلى أرواح الأبرار الذين بلغوا الكمال، وإلى يسوع وسيط العهد الجديد وإلى دم أفصح من دم هابيل”.

وبذلك فالقدّاس الإلهيّ يدخلنا في سرّ الكنيسة الكونيّة التي أرادها الله لملء الأزمنة حيث “يجمع في المسيح يسوع ما في السماوات وما على الأرض” (أف 1: 10)، حتى يكون الله “الكلّ في الكلّ” (1 كو 15: 28)، في سرّ الكنيسة التي هي “ملء الذي يملأ كلّ شيء في الكلّ” (أف 1: 23).

لذلك ترتفع صلاة الكنيسة المجتمعة حول الجسد والدم الإلهيّين مبتهلة من أجل العالم أجمع في صلاة شكريّة وابتهاليّة كونيّة (راجع مثلاً صلاة ما بعد الاستحالة في قدّاس القدّيس باسيليوس)، إذ تحقّق الجماعة عندئذٍ دعوتـها الكهنوتيّة في المسيح يسوع.

ولكن قلب سرّ الشكر هو تذكار أعمال الربّ من أجل العالم وبالأخصّ تجسّد الكلمة وتدبيره الخلاصيّ، وحلول الروح القدس على الجماعة وعلى القرابين ليحوّلها إلى جسد الربّ، حتّى إذا تناولها المؤمنون صاروا بالمساهمة جسد الربّ وأعضاء بعضهم لبعض أي الكنيسة. “نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضنا لبعض” (رو 12: 5). يقول الكاهن في قدّاس القدّيس باسيليوس بعد استدعاء الروح القدس على الشعب والقرابين: “أمّا نحن المشتركين في الخبز الواحد والكأس الواحدة فاجعلنا جميعًا متّحدين بعضنا ببعض في شركة روح قدس واحد”.

ويقول القدّيس كيرلّس الإسكندريّ في شرحه إنجيل يوحنّا:

“إنّ الابن الوحيد، في حكمته، وحسب مشورة الآب، أوجد طريقة ليجمع بـها بيننا ويصهرنا في الوحدة مع الله مع أنّنا ذوو شخصيّات مختلفة في نفوسنا وأجسادنا. فإنّه في جسد واحد، وهو جسده، يبارك الشركة السرّيّة للمؤمنين به ويجعلهم مساهمي جسده ومساهمين بعضهم بعضًا. فمن ذا الذي يقدر أن يفصم وحدة الذين ارتبطوا معًا بالوحدة في المسيح في جسده الواحد المقدّس. لأنّه إذا كان الجميع يأكلون خبزًا واحدًا فنحن نصير جسدًا واحدًا. وإذا كنّا جسدّا واحدًا متّحدين بعضنا ببعض في المسيح يسوع، لا بل كنّا جسدًا واحدًا مع الذي يأتي إلينا في جسده، كيف لا نكون جميعًا واحدًا في ما بيننا ومع المسيح”.

ويقول ثيوذوروس أسقف مبسووستا:

“عندما يصير جسد الربّ الواحد طعامًا لنا وعندما نتّحد بـهذا الطعام فإنّنا نصير جميعًا جسد الربّ الواحد إذ نساهمه كرأس لنا، ونصير كما قال الرسول: “جسد المسيح” وقال الرسول أيضًا: “المسيح هو الرأس الذي فيه كلّ البناء، مركّبًا معًا ينمو هيكلاً مقدّسًا في الربّ الذي أنتم أيضًا فيه مبنيّون معًا مسكنًا لله بالروح” (أف 2: 21-22).

وما هذا الهيكل سوى الكنيسة التي هي سكنى الله مع البشر ليحوّل فيها كثرتـهم إلى واحد في وحدة جسده الإلهيّ، “لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا صانعًا سلامًا، ومصالحًا الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة” (أف 20: 15-16).

يقول القدّيس مكسيموس المعترف:

“الرجال والنساء والأطفال المختلفون في الجنس والأمّة والطبقة والعمل والعلم والكرامة والثروة، هؤلاء جميعًا تخلقهم الكنيسة في الروح وتعطي الجميع شكلاً إلهيًّا. في الكنيسة ليس أحد منفصلاً عن الجماعة إذ المسيح هو الكلّ في الكلّ حتّى لا تبقى مخلوقات الله غريبة عن بعضها البعض أو عدوّة لبعضها البعض بل يكون الربّ المركز المشترك المعطي لها بالمحبّة والسلام”.

هذا هو سرّ الكنيسة التي تتكوّن في الاجتماع الأفخارستيّ، حيث “لا يهوديّ ولا يونانيّ، لا عبد ولا حرّ، ليس ذكر ولا أنثى (غلا 3: 28)، ليس ختان أو غرلة، بربريّ أو أسكيثيّ (كولوسي 3: 11)، لا غنيّ ولا فقير (يع 2: 3)، بل الجميع واحد في المسيح يسوع”. فالجماعة المجتمعة في مكان واحد برئاسة الأسقف أو مندوبه لإقامة سرّ الشكر في الكنيسة كلّها كما جاء في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس (14: 23)، وفي الرسالة إلى أهل رومية (16: 23)، أي هي الكنيسة الجامعة حسب قول القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ:

“حيثما يظهر الأسقف هناك فلتكن الجماعة كما أنّه حيثما يكون المسيح هناك الكنيسة الجامعة”.

وقول القدّيس إيريناوس:

“حيث روح الله هناك هي الكنيسة وكلّ نعمتها”.

وكما أنّ جسد المسيح يفصَّل ولا ينقسم وكلّ مؤمن يتناوله بكامله، فالكنيسة بكمال النعمة أي بوحدتـها وقداستها وجامعيّتها ورسوليّتها، حاضرة في كلّ جماعة أفخارستيّة تقيم عشاء الربّ.

ويتساءل المرء بعد هذا أليست هذه صورة مثاليّة، بعيدة عن واقع الكنيسة؟ أجل إنّ سرّ الكنيسة كجسد للمسيح الذي تختبره الجماعة في سرّ الشكر يجب عليها أن تحقّقه في واقعها المعاش. فالكنيسة في غربتها (1 بط 1: 17) وفي حياة أعضائها في هذا العالم معرّضة للتجارب والعواصف والانقسامات يقول الرسول إلى أهل كورنثوس: “بلغني أنّ بينكم انشقاقات وأنا أصدّق هذا بعض التصديق لأنّه لا بدّ من البدع في ما بينكم” (1 كو 11: 18) ويفسّر ذلك: “فإنّه إذا كان فيكم حسد وخصام وانشقاق ألا تكونون بعد جسديّين وتسلكون سلوكًا جسديًّا (1 كو 3: 3). لذلك لا بدّ للمؤمنين من أن “يسلكوا كما يليق بالدعوة التي دعاهم الله إليها” (أف 4: 1) فحياة الكنيسة على الأرض حياة جهاد وتجدّد مستمرّ للرؤساء والأعضاء “اتركوا سيرتكم الأولى بترك الإنسان القديم الذي أفسدته الشهوات المخادعة وتجدّدوا روحًا وعقلاً (أف 4: 22-23)، فعلى الأساقفة أن يحترزوا لأنفسهم”… لأنّ بينكم ستدخل ذئاب خاطفة، لذلك اسهروا” (أع 20: 28-31). وعلى الجميع أن “يلبسوا سلاح الله الكامل لكي يقدروا أن يثبتوا ضدّ مكايد إبليس” (أف 6: 11)، إلاّ أنّ الكنيسة في جهادها هذا لها أنّ الربّ “وعدها وعدًا صادقًا بأن يكون معها إلى نجاز الدهر”، بالروح القدس المعطى لها، ولها اليقين أنّ الربّ الذي “أحبّ الكنيسة وبذل نفسه لأجلها” يقدّسها ويطهّرها باستمرار بالكلمة، وبالمادء والدم النابعين من جنبه المقدّس (أف 5: 25-26)، ويعدّها لنفسه “عذراء نقيّة” (2 كو 11: 2)، “لا عيب فيها ولا تجعّد” (أف 5: 27). فالخبز الإلهيّ هو خبز الحياة، الذي “يشدّد قلب” (مز 103: 15) الجماعة الكنسيّة في مسيرتـها وجهادها ويطهّرها بقدر طاعتها واستعدادها لحمل الصليب الذي به غلب الربّ الموت والفساد. فهذا الخبز هو، كما يقول القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ، “دواء عدم الموت”. ويقول مكسيموس المعترف:

“ما هو الدواء؟ هو ذلك الجسد المجيد الذي ظهر أقوى من الموت وصار لنا ينبوعًا للحياة. وكما أنّ الخميرة القليلة تخمّر العجنة كلّها، على حسب قول الرسول، كذلك الجسد الذي رفعه الله إلى عدم الموت، إذ يدخل جسدنا يحوّله بكلّيّته إلى جوهره”.

ويرى ثيوذوروس أسقف مبسووستا أنّ سرّ الشكر يثبّت فينا ما فقدناه من بـهاء المعموديّة ويقول:

“كما أنّه بالولادة الجديدة (أي المعموديّة) صاروا كاملين في جسد واحد هكذا فليثبتوا في جسد واحد بشركة جسد ربّنا، حتّى إنّـهم باتّفاق القلوب والسلام والمواظبة على العمل الخيّر يصيروا واحدًا. هكذا بشركة الأسرار الإلهيّة نصير متّحدين برأسنا الربّ يسوع المسيح الذي نحن جسده وبه نصير شركاء الطبيعة الإلهيّة”.

لذلك تصلّي الكنيسة حتّى يكون الجسد والدم الإلهيّين للمتناولين “لانتباه النفس ومغفرة الخطايا وشركة الروح القدس والدّالّة لدى الربّ، لا لمحاكمة ولا لدينونة”.

هكذا يحوّل القدّاس الجماعة المؤمنة المجتمعة حول كلمة الله وسرّ الشكر إلى كنيسة الله الحيّ معيدًا لها بـهاءها وجمالها ويعدّها لوليمة عرس الحمل. فترتّل شاكرة وساجدة: “أنعم علينا أن نساهم بأوفر حقيقة في نـهار ملكك الذي لا يغرب أبدًا”.

وأيضًا “قد نظرنا النُّور الحقيقيّ وأخذنا الرّوح السماويّ ووجدنا الإيمان الحقّ، فلنسجد للثالوث غير المنقسم لأنّه خلّصنا”.

مجلة النور نيسان 2000، العدد2، ص 111- 119

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share