لا بدّ، بادئ بدء، من أن نشير إلى أنّ الآية الإنجيليّة «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (متّى 22: 21) قد استعملها البعض، في غير سياقها، للقول إنّ السيّد المسيح قد حظّر على المسيحيّين التعاطي في الشأن العامّ. إلاّ أنّ التعمّق في مدلولات هذه الآية وتعاليم يسوع يدفعنا إلى التأكيد أنّه لم يوص البتّة بأنّه لا يجوز للمسيحيّ الملتزم أن يتعاطى الشأن الدنيويّ أو الزمنيّ أو أن يرفع صوته بالحقّ عندما يرى ظلمًا أو ابتعادًا عن تعاليم الله. المسيح لم يقل إنّ مملكته ليست “في” هذا العالم، لكنّه قال لتلاميذه: مملكتي ليست “من” هذا العالم (يوحنّا 18: 36)، أي أنّها ليست على مثال ما هو سائد في هذا العالم من ممالك ظالمة ومحاربة ومستعمرة ومحتكرة … إقامة مملكة الله في العالم – ومملكة الله مملكة الذين ينسبون أنفسهم إليه – أمر يدخل في صميم تعاليم يسوع، فهو لم يدعُ أتباعه إلى الاستقالة من العالم بل دعاهم إلى الالتزام بالشهادة للحقّ عندما أرسلهم ليبشّروا: “وأنا ما ولدت إلّا لأشهد للحقّ” (يوحنّا 18: 37).
في هذا السياق أيضًا تندرج صلاة المسيحيّ اليوميّة “ابانا الذي في السموات”. ففي هذه الصلاة يتوجّه المؤمن الى ربّه داعيًا: “ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”. نحن نؤمن بأنّ الملكوت السماويّ قد بدأ وهو حاضر “الآن وهنا” (hic et nunc)، ولكنّه سيعتلن بقوّة في اليوم الأخير. غير أنّ المسيحيّ ينبغي ألّا ينتظر الملكوت بسلبيّة وتكاسل حتّى مجيء اليوم الأخير، بل عليه تحقيقه “الآن وهنا” من خلال التزامه تحقيق مشيئة الله (الوارد ذكرها في الصلاة عينها) في الخير والسلام والعدالة والمحبّة وإعمار الأرض والحفاظ على جمالها وجمال الإنسان. العالم يتحوّل أكثر فأكثر ملكوتًا كلّما انضمّ إنسان جديد إلى الجهاد من أجل عالم أكثر عدلاً وسلامًا وحبًا.
من هنا يأتي السؤال عن تعاطي المؤمنين ورجال الدين بخاصّة في السياسة، فرأينا البعض يدافع عن هذا الأمر، كما رأينا البعض الآخر يرفضه رفضًا باتًا. لا بدّ من الإشارة، قبل الدخول في النقاش، إلى أنّ السياسة بمفهومها الحضاريّ غائبة عن لبنان وشعبه وغالبيّة سياسيّيه. ليس السؤال إذًا عن حقّ رجال الدين في التعاطي السياسيّ، ولكنّه عن تدخّل رجال الدين في السياسة ضمن سياق السجالات الطائفيّة أو ذات المدلول الطائفيّ؟
لا شكّ في أنّه من أهمّ واجبات رجال الدين الأساسيّة الكلام في الشأن اليوميّ للناس، وذلك من خلال تأوين الإنجيل وجعله راهنًا في حياتهم اليوميّة. من هنا يندرج دفاعهم عن الفقراء والمحتاجين في وجه المحتكرين، وعن المساواة في الإنسانيّة والحرّيّة في وجه الظالمين والمعتدين. إنّه لمن البديهيّ، لا بل إنّه ينبغي لرجال الدين أن يبدوا آراءهم في المبادئ الأساسيّة البعيدة عن السياسة المحلّيّة بتفرّعاتها ودهاليزها. كما أنّه من واجبهم تنبيه الدولة إذا لاحظوا انحرافًا عندها في تطبيقها القوانين والأنظمة، ذلك أنّه يجب ألا نغفل أنّ كون الأسقف أو الكاهن مواطنًا يعطيه الحقّ كغيره من المواطنين بالتعبير عن رأيه في السياسة المحلّيّة، إنّما عليه – في هذا الموضع – أن يقرّ أنّ هذا هو رأيه الخاصّ وليس رأي جماعته الكنسيّة المرتبطة به فقط لكونه المقام من الله ومنهم وكيلاً على إيمان الكنيسة المحلّيّة. ولهذا الأمر مواقع ومنابر متعدّدة … وليس قطعًا منبر الوعظ والتعليم في الجماعة المؤمنة. فهذا لم نعهده في تاريخ كنيستنا، إلاّ إذا كان ثمّة إجماع في الجماعة نتج منه قرار اتّخذ بعد شورى حقيقيّة غير مقتصرة على بعض “أعيان الطائفة”، بل تتعدّاهم لكي تطال كلّ مؤمن هاجسه الكنيسة.
ذلك أنّ استعمال منابر الوعظ والتعليم في الجماعة الكنسيّة للدخول في متاهات السجال السياسيّ المحلّيّ، قد يقودنا في الزمن الراهن، حيث يسود الخطاب الطائفيّ في البلاد من أعلى المستويات السياسيّة إلى أدناها، إلى محاذير عدّة، منها:
- الخلط بين الكنيسة كجسم دينيّ لا يربط بين أعضائه سوى الانتماء إلى الإيمان بيسوع المسيح ربًا ومخلّصًا والملّة-الطائفة كجسم اجتماعيّ لا تربط بين أعضائه سوى مصالح ومنافع شخصيّة وماليّة آنيّة. نتيجة هذا الخلط تؤدّي إلى التماهي ما بين الأسقف الرئيس الدينيّ للكنيسة المحلّيّة والأسقف رئيس “الملّة” بمفهومها العثمانيّ. وهكذا يصبح كلّ انتقاد لموقف سياسيّ يتّخذه رئيس الملّة تعرّضًا للملّة كلّها. لا غرو إذا رأينا أنّه في هذا النظام “الطائفيّ” العجيب يصبح رئيس الملّة أعلى سياسيًا من أيّ موقع سياسيّ آخر، فتستطيع أن تنتقد أيّ مسؤول مهما كان حجمه ولا تستطيع أن تنتقد رئيس الملّة لئلا تتّهم بإثارة النعرات الطائفيّة والتهجم على إحدى “العائلات الروحيّة” التاريخيّة المؤسّسة للبنان!
- الفرز الطائفيّ الذي ينتج من اتّخاذ رجال الدين مواقف “سياسيّة” بمعناها اللبنانيّ. فترى من جهة تكتّلاً ذا لون واحد هو لون رجال الدين المعنيّ ومن جهة أخرى ترى تكتّلاً من لون آخر. وكأنّنا لم نستخلص من دروس الحرب الأخيرة أيّة عبرة.
- الاستغلال الإعلاميّ لموضوع العظة الدينيّة، حيث تبرز بعض الوسائل الإعلاميّة – بخاصّة المرئيّة منها – ما يفيد استراتيجيّتها البعيدة المدى، وتماهي بين رأي صاحب العظة وطائفته، فتعمّم بذلك رأي شخص (أو فئة قد تكون موافقة معه) على كلّ المسيحيّين. فيساهم الواعظ بذا في عمليّة الفرز الطائفيّ، شاء ذلك أم لم يشأه.
نحن في أمسّ الحاجة اليوم إلى الابتعاد عن كلّ ما يغذّي الطائفيّة في البلاد، وبخاصًة أنّ الجوّ ما زال عابقًا بالروائح الطائفيّة. ولا نشكّ للحظة في إخلاص السادة رجال الدين، إنّما الناس تفهم أحيانًا مواقفهم بشكل خاطئ فتضعها في خانة مصالح الملّة-الطائفة المنتمين إليها. لذلك، نرى ضرورة احترام آراء أبنائهم المنتمين إلى كنائسهم غير الراغبين في أن يُصنَّفوا طائفيًا، فيتّخذ السادة رجال الدين مواقف لا تلزمهم إلاّ هم، ذلك أنّ الوحدة الكنسيّة القائمة في سرّ الشكر لا تعني بتاتاً الوحدة في الرؤية السياسيّة. وبما أنّ العظة أو التعليم على المنبر ملزمان للجماعة من حيث هو تأوين للكلمة الإلهيّة، وبما أنّه ثمّة بين المؤمنون من يؤيّد رأي المسؤول الدينيّ في السياسة وهناك من يخالفه الرأي، وهو في مخالفته الرأي مرتاح الضمير، كما أنّه ثمّة مؤمنين لا رأي لهم من حيث هم آنفون عن الخوض في غمار السياسة اللبنانيّة ولا يريدون أن يُزجّ بهم فيها، لذلك فكلّ موقف سياسيّ يُطلق من منابر الوعظ والتعليم إنّما هو مصادرة لحقّ المؤمنين الطبيعيّ في اختلافهم، مع بقائهم موحّدين في الإيمان، وهو عدوان يمسّ حقوقهم المدنيّة كمواطنين يرغبون في العيش في وطن حقيقيّ لا في ملّة منعزلة مقفلة.
آفة الآفات الطائفيّة، وإذا حوّلنا الكنيسة إلى طائفة-حزب ولم نحترم تعدّد الآراء في الكنيسة، فالمستقبل مظلم، في آنٍ، للكنيسة والبلاد.
مجلة النور، العدد الخامس 2000، 242-244