كتب أحد مؤسِّسي حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة: “في السادس عشر من آذار 1942 واجه بعض الشبّان الأرثوذكس قلقهم وقرّروا الانطلاق في درب الرجاء”. كانوا مجموعة من الشبّان الجامعيّين تراوحت أعمارهم بين السابعة عشرة والتاسعة عشرة، قرّروا أن يؤسّسوا حركة توقظ الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة من غفوتـها. وكان هدفهم عيش الحياة الكنسيّة وإيصال رسالة المسيح إلى الأرثوذكس كافّة، ودعوتـهم إلى “نـهضة روحيّة وأخلاقيّة وثقافيّة واجتماعيّة”.
انتشرت الحركة انتشار النار في الهشيم بين طلاّب الجامعات وتلامذة المرحلة الثانويّة في المدارس، كما في الأوساط غير الطلاّبيّة، في اللاذقيّة وطرابلس ودمشق.
عيّن متروبوليت بيروت، في ذلك الوقت، كاهنًا خاصًّا للاهتمام بشؤون الحركة ومتابعتها. لكنّ الحقّ أن الشباب الجامعيّين أنفسهم اضطلعوا بمهمّة إرشاد الشبيبة الأرثوذكسيّة. فأنشئ، إثر ذلك، مكتب للدراسات راح أعضاؤه يرتادون مكتبات المطرانيّات الأرثوذكسيّة في لبنان ومكتبتَيّ جامعة القدّيس يوسف للآباء اليسوعيّين والجامعة الأميركيّة، ومكتبة الآباء الكاثوليك وبيوت الطلبة الأرثوذكس. فاكتشفت الحركة عندئذ كتاب “الأرثوذكسيّة” للأب سيرج بولغاكوف (ولم نكن نعلم أنّ الأب ﻟﻴﭪ جيلله هو الذي نقله إلى الفرنسيّة)، ومجلّة “إيرينيكون”.
لقد حالت الحرب العالميّة الثانية، 1942 و1945، دون قيام أيّ تواصل بين شباب الحركة الأرثوذكسيّة في أوروبا. غير أنّ أعضاء “مكتب الدراسات” دوّنوا، من خلال مطالعاتـهم، أسماء اللاهوتيّين الأرثوذكس والحركات الأرثوذكسيّة لاسيّما في اليونان وفرنسا. وكان من بين الأسماء التي لفتت انتباههم اسم الأب ﻟﻴﭪ جيلله الذي ورد بشكل متواتر كونه كتب الكثير من المقالات، بصفته كاهنًا كاثوليكيًّا في مجلّة إيرينيكون، ثمّ بصفته كاهنًا أرثوذكسيًّا في مجلّة الكنيسة الكاثوليكيّة – الإنجيليّة التي يصدرها الأسقف فينايرت.
- مقال صدر في مجلّة Contacts العام 1994 الفصل الأوّل العدد 165 ص 48-59 ننشره لمناسبة مرور عشرين سنة على وفاة الأب ﻟﻴﭪ جيلله راجع مجلّة النُّور، العدد الرابع، السنة 1997 ص 203-214).
كانت السنة 1946 سنة مباركة بالنسبة إلى الحركة، إذ اعترف خلالها المجمع الأنطاكيّ المقدّس بحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة على أنّـها حركة الشباب وقناة عملهم الرسميّة في أرجاء البطريركيّة. في الوقت ذاته، أدّت الإتّصالات التي أقيمت بعد انتهاء الحرب، مع الحركات المسيحيّة في أوروبا، إلى تلقّي الحركة دعوة موجّهة إلى ثلاثة من قادتـها للمشاركة في المؤتمر السنويّ لرابطة القدّيسين ألبان وسرجيوس في أبينغدون وفي الجمعيّة العموميّة للاتّحاد العالميّ للطلبة المسيحيّين في جيفات (سويسرا). لم يحضر الأب ﻟﻴﭪ جيلله إلى أبينغدون في تلك السنة ولكن ناديجدا غورودتزكي نظّمت لشباب الحركة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة لقاءً معه في أوكسفورد.
سحر الشبّان الثلاثة بشخصيّة الأب ﻟﻴﭪ، بعذوبة نظراته ورسوخ فكره في الكتاب المقدّس، وسعة علمه واطّلاعه، وامتداد أفقه الروحيّ وانفتاحه اللامحدود. ولاحظوا أنّ بإمكانه أن يقدّم الكثير إلى حركتهم الملتزمة خطّ الوفاء للإنجيل والإخلاص للكنيسة. من جهة أخرى، لفتت الأب ﻟﻴﭪ مطواعيّة الحركة وشوقها إلى رؤية ملكوت الله يتحقّق وسط جماعة الأرثوذكس الأنطاكيّين ومن خلالهم، وانفتاحها المسكونيّ ورؤيتها التي تطلب من الأرثوذكسيّة أن تكون حاضرة في العالم المعاصر. على أثر أحاديث مطوّلة، نمت مودّة عميقة بين الراهب الغربيّ الذي أصبح راهبًا من الكنيسة الشرقيّة، وأولئك الشباب القادمين من الشرق الأوسط والمشبعين بثقافة الغرب. فاقترح عليهم الأب ﻟﻴﭪ الإطّلاع على عدد من الكتب الروحيّة والتفاسير الإنجيليّة، وأعرب لهم عن استعداده لتلبية الدعوة التي وجّهتها إليه الحركة وتاليًا الحضور إلى لبنان. رفعت مجموعة من الشباب الحركيّين تقريرها عن هذه المحادثات إلى أمين عامّ الحركة في بيروت ثمّ أعلمت غبطة البطريرك الأنطاكيّ بالأمر، فمنحها موافقته على استقبال الأب ﻟﻴﭪ.
ببركة صاحب الغبطة ودعمه الماليّ وصل الأب ﻟﻴﭪ إلى بيروت في شهر شباط من السنة 1948. وقد استقبله متروبوليت بيروت بمحبّة أبويّة خالصة في دار المطرانيّة.
تأثّر الأب ﻟﻴﭪ بالحركة التي كان أعضاؤها – وما زالوا – منتظمين في فرق بحسب توزيعهم الجغرافيّ وسنّهم. فقد كانت حياة الفرقة حياة أخويّة قائمة على الصلاة والاشتراك في القدّاس الإلهيّ والتأمّل الإنجيليّ أسبوعيًّا أو مرّتين في الشهر، ودراسة تاريخ الكنيسة وبحث المسائل التي تعترض الشباب في حياتـهم اليوميّة على ضوء الإنجيل والتقليد الأرثوذكسيّ. وكان أعضاء الحركة أيضًا مبشّرين التزموا إنشاء مدارس الأحد، وتأسيس فرق خاصّة للمراهقين، إضافة إلى الزيارات المنتظمة إلى القرى، والعمل الإجتماعيّ وجوقات الترتيل ونشر مجلّة النُّور.
دخل الأب ﻟﻴﭪ في هذه الفورة الروحيّة وتفانى في منحها مواهبه المتعدّدة. ففي الرسائل التي كان يوجّهها إلى الحركة بعد كلّ زيارة، كان يعبّر عن إسرافه في الاستفادة من كرمها، ذاكرًا الأعباء المادّية التي كانت تترتّب عن مجيئه. لكن في الواقع، كانت الحركة هي المستفيدة من هبات الأب ﻟﻴﭪ ومطواعيّته وتوفّره في حلقات إعداد المرشدين، وتحضير النصوص وحلقات تفسير الكتاب المقدّس المخصّصة للأساقفة، وزياراته إلى طرابلس ولاحقًا إلى اللاذقيّة ودمشق، والاجتماعات في إطار حلقة القدّيس إيريناوس التي أسّستها الحركة من أجل الحوار الروحيّ مع الكاثوليك ثمّ مع البروتستانت المنفتحين على الحوار، والخلوات الشبابيّة والعظات التحضيريّة لعيد الفصح، والبرامج الأسبوعيّة على الإذاعية اللبنانيّة بعد مغادرة الشّمّاس أغناطيوس هزيم إلى باريس، ناهيك عن المقالات التي نشرتـها له مجلّة النُّور، واللقاءات والأحاديث الشخصيّة التي كانت تجمعه بالشباب والفتيات. وفي مقابلة أجراها جو وايس مع الأب ﻟﻴﭪ، نشرت في سندسموس نيوز 1972، وصف الأب هذه السنوات الأولى للحركة على أنّـها سنوات مواهبيّة، بقوله: “خلنا أنّنا نعيش مجدّدًا سفر أعمال الرسل”.
لكن بعد هذا “الجليل الروحيّ” آن أوان الصلب المؤلم. ففي 28 تـمّوز 1948، أبلغ البطريرك الأنطاكيّ الأب ﻟﻴﭪ أنّ الكنيسة الروسيّة (أي كنيسته التي يتبعها) طلبت منه العودة إلى لندن من دون إعطائه أيّ تبرير. فتدخّلت الحركة لدى البطريرك الذي سمح للأب ﻟﻴﭪ بتمديد إقامته ولكن، لسوء الحظ، وصلت رسالة البطريرك بعد رحيل الأب ﻟﻴﭪ.
لكنّ الأب ﻟﻴﭪ وحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة لم يستسلما لهذا الانفصال. فكتب الأب في شهر آب 1948: “مع ابتعادي عنكم قليلاً في الزمان والمكان لاحظتُ مدى تعلّقي بكم جميعًا وأدركتُ أنّ مصيري مرتبط بمصيركم”. ثمّ كتب في فترة لاحقة: “إن اضطررتُ يومًا إلى التخلّي عن الآمال التي عقدتـُها على شبيبة لبنان فذلك سيكون حسرة كبرى في قلبي. لذلك أطلب منكم أن تخبروني ماذا يمكنني أن أفعل وأنا بعيد لكيّ أستمرّ في خدمة الحركة قليلاً فإنّني لا أريد أن أبتعد عن الحركة أو أصبح غريبًا عنها إلاّ إذا أردتم أنتم أن تبعدوني، فأنا لكم. ولن يأخذني أحد منكم”.
بعد ذلك، بدأ الأب ﻟﻴﭪ يفكّر بإمكانيّة الخروج عن سلطة الكنيسة الروسيّة لكي يعود إلى العمل مع الحركة ببركة رئاسته الروحيّة الجديدة. فبدأ يتّخذ الإجراءات القانونيّة المناسبة لذلك. وقد خطّ إليه كل من بطريرك أنطاكية ومتروبوليت بيروت رسالة تشجيع. في عيد الفصح السنة 1949، أبلغه الوكيل البطريركيّ لكنيسة موسكو في أوروبا الغربيّة أنّه لم يعد خاضعًا للرئاسة الروحيّة الروسيّة وأنّ بإمكانه طلب الدخول في سلطة المطران جرمانوس أسقف تياطيرا الروحيّة.
عاد الأب ﻟﻴﭪ إلى لبنان في 1/11/1949 وبقي حتّى صيف 1950 حين غادر للمشاركة في مؤتمر الرابطة في إنكلترة. فأعلمه أسقفه، جرمانوس، أنّه أصبح الكاهن المسؤول عن بيت القدّيس باسيليوس للطلبة Saint Basil’s House في لندن وأوكل إليه الاهتمام بمشاريع خاصّة بالطلاب الأرثوذكس في أوكسفورد. لكنّ الأسقف ترك له حرّيّة التقرير بكلّ وعي بين العودة إلى الشرق الأوسط أو الاهتمام بالعمل الموكل إليه في إنكلترة. تردّد الأب ﻟﻴﭪ وحار معبّرًا عن ذلك بقوله “يتنازعني ميلان”. فاتّخذ على عاتقه، مؤقّتًا، المهمّات التي أوكلت إليه في إنكلترة ولكن حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة نادته مجدّدًا. فاستجاب إلى هذا النداء في ربيع العام 1951 ثمّ في العامين 1953 و1954. وإذ وجد الأب ﻟﻴﭪ أنّ الحركة في نموّ متزايد، قدّم لها مساعدته، كما قدّم مساعدته أيضًا إلى اتّحاد الشباب المسيحيّ الذي أسّسته الحركة مع بعض الحركات البروتستانتيّة.
عادت بعض شابّات حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، اللواتي كرّسن أنفسهنّ للحياة الرهبانيّة وانضممن إلى دير راهبات روسيّات في فلسطين، إلى منازلهن في اللاذقيّة بسبب اندلاع الحرب الإسرائيليّة-العربيّة. فأوصاهنّ الأب ﻟﻴﭪ بأن يبدأن حياة مشتركة في شقّة يمكن أن تستأجرها الحركة في ضواحي بيروت. وقد أعطاهنّ قاعدة حياة تقوم على الصلاة والتأمّل في الكتاب المقدّس وكتابات الآباء، والصمت والعمل، على أن تستطعن الحكم في صحّة دعوتـهنّ بعد فترة من الاختبار. كتب الأب ﻟﻴﭪ في شهر تشرين الثاني 1953 في شأن هذه الجماعة التي نشأت واستقرّت في دير القدّيس جاورجيوس (دير الحرف): “يجب ألاّ نستغرب نشوء المحن والصعوبات. بل يجب أن نستغرب العكس. فبحسب التطوّر الطبيعيّ للأحداث، كان لا بدّ للعام 1954 من أن يختم نـهاية مرحلة التدرّب والتردّد، ويكون بدءًا لقيام التشريعات وتحديد السلطات. لكنّ المسألة الأهمّ تبقى مسألة الطاعة. فإذا اعتبرت كلّ من الأخوات نفسها أنّـها خادمة الخادمات وأنّـها تريد أن تكون الأكثر خضوعًا للجميع عندئذٍ تزول المشكلة. فلتتحضرنّ إذًا بالتفاني المتواضع في الأمور الصغيرة ولتتأمّلن في كلمات السيّد، ولتَجِدْنَ في الإنجيل القاعدة الكافية لكلّ عمل من أعمال النهار. ربّما وجب عندئذ أن تفكّر بعضهنّ بإمكانيّة الخدمة في شكل من الأشكال – إذا شعرن أنّـهن مدعوّات إلى ذلك. لأنّ المحبّة في الأعمال يمكنها أن تكون محرّكًا كبيرًا للحياة الروحيّة”.
لكيّ يرسّخ الأب ﻟﻴﭪ الجماعة الجديدة في التقليد الرهبانيّ أرسل إلى الأم بلاندين، الراهبة في دير بوسي الأرثوذكسيّ في فرنسا، أن تأتي لتعيش معهن خلال فترة تدريبهنّ. وقد بقيت معهن إلى أن استقرّين نـهائيًّا في دير القدّيس يعقوب بالقرب من طرابلس وارتدين الاسكيم الرهبانيّ. هكذا نشأت بمساعدة الأب ﻟﻴﭪ هذه الجماعة الرهبانيّة.
كانت السنة 1953 سنة نضوج روحيّ لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة من جهة بسبب نشاط الأب ﻟﻴﭪ وبفضل الاسترشاد الروحيّ الذي طلبه منه عدد من الشباب، وأيضًا بسبب عودة جورج خضر، أحد مؤسّسي الحركة من فرنسا، بعد أن أنـهى علومه في معهد القدّيس سرجيوس في باريس وأصبح راهبًا اسمه “الأخ يوحنّا” بانتظار أن يُسام كاهنًا العام 1954. وفي السنة 1953 أيضًا عاد الشمّاس أغناطيوس هزيم من باريس ليُسام كاهنًا ويعيّن مديرًا لكلّيّة البشارة الأرثوذكسيّة. إذًا، بدأت الدعوات الرهبانيّة والكهنوتيّة تظهر بين الناس. وقد سرّ الأب ﻟﻴﭪ لهذا الأمر فتوجّه إلى أعضاء الحركة عند انتهاء مدّة إقامته في السنة 1954 بقوله:
“ما لفت انتباهي العام 1954، هو تعمّق عملكم ورسوخه. فأنا أدعو هذا العمل الكثيف والعميق تكريسًا. والحقّ أنّكم لن تكونوا أرثوذكسيّين حقيقيّين ما لم تكرّسوا أنفسكم ليسوع المسيح. أرجو أن ينتشر هذا العمل أو هذه الروح التكريسيّة انتشار النار فيطاول كنيسة أنطاكية بأسرها”.
هكذا، العام 1957، كرّس خمسة من أعضاء حركة الشبيبة أنفسهم للحياة الرهبانيّة في دير الحرف، مشكّلين بذلك نواة الجماعة الرهبانيّة الحاليّة لهذا الدير.
العام 1958، انتخب المطران ثيودوسيوس، متروبوليت طرابلس وصديق الأب ﻟﻴﭪ، بطريركًا. فقال الأب ﻟﻴﭪ في هذا الصدد: “على عهده يمكننا أن نأمل بحصول نـهضة في الكنيسة” وأضاف “أواه يا لبنان، أواه يا قدس! إنّني أعيش في بابل وأفكّر بكما!”
من جديد، تمنّت الحركة أن ينتهي هذا “السبي البابليّ” ولكن كانت للأب ﻟﻴﭪ ارتباطات عدّة في أوروبا ولاسيّما في إطار المؤتمر العالميّ للأديان حيث كان يبدو له، وعلى حدّ تعبيره، “أنّ مهمّته تكمن في ألاّ يدع هذه الهيئة تقع فريسة التشوّش والتلفيق وفي الدفاع عن المسيحيّة”.
على الرغم من ذلك، تابع الأب ﻟﻴﭪ زياراته للحركة ولأصدقائه اللبنانيّين. إذ ربطته علاقة صداقة بمدير “الندوة اللبنانيّة” وهي مؤسّسة ثقافيّة يتفكّر من خلال منبرها المثقفون من كلّ الاتّجاهات والانتماءات في المسائل الفلسفيّة والثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة. وقد دعي الأب ﻟﻴﭪ العام 1963 إلى إلقاء محاضرة حول “القدس، رمز الالتقاء الروحيّ”. وفي السنة ذاتـها صدر له في منشورات النُّور كتيّبان: “أبانا” وهو مدخل إلى الإيمان والحياة المسيحيَّين، و”كُن كاهني” وهو تأمّل عميق ومؤثّر في الدعوة الكهنوتيّة.
بعد انتهاء زيارته في شهر كانون الأوّل 1963 وكانون الثاني 1964، وجّه الأب ﻟﻴﭪ رسالة جديدة إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة جاء فيها:
“تعرّفت بفرح إلى الموجة الجديدة أعني بـها الأيادي الشابّة التي تحمل المشعل الآن؛ وقد تأثّرت لدرجة تفوق التعبير بالمحبّة والانفتاح والثقة التي بادلني إيّاها أولئك الذين لم يكونوا يعرفونني بعد… فما هي التمنّيات التي أوجّهها إلى هذه الحركة؟ الحقّ أنّ فيكم، أكثر من أيّ فريق شبابيّ آخر، أشعر كما شعرت منذ ستّة عشر عامًا، بجدّة الإنجيل ونضارته وبنفحة الروح القدس في العنصرة. فابقوا مخلصين للإنجيل والروح”.
ثمّ، مشيرًا إلى المحنة الصعبة التي كان يمرّ بـها المجمع الأنطاكيّ المقدّس والطائفة الأرثوذكسيّة، وهي المحنة التي لم تستطع حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أن تبقى لامبالية حيالها، تابع الأب ﻟﻴﭪ قائلاً: “لا تدعوا التقلّبات والأحداث الناتجة من حياة الطائفة أو الكنيسة تغرقكم أو تبعدكم عن الإنجيل. بل اطلبوا أوّلاً ملكوت السموات وبرّه. فهذه الوصيّة الإنجيليّة تقتضي، من دون شكّ، العمل من أجل إدخال الطائفة والكنيسة المحلّيّة في الملكوت بدون قلق أو تشوّس بل بسلام ومحبّة. لكنّ الملكوت يجب أن يبدأ فيكم أنتم أوّلاً، ومنكم يشرق حولكم! أيّها القطيع الصغير الذي أحبّه الراعي الصالح. فالباقي يزاد لكم، ومن ضمنه المواهب الكهنوتيّة التي تبتغونـها كثيرًا والتي تقدّمونـها إلى الكنيسة وإلى أساقفتكم كثمرة مجهود طويل وصبور!”.
كلمات رائعة تشكّل شرعة العمل الأرثوذكسيّ!
في خريف السنة ذاتـها (1964)، قرّرت سندسموس، الرابطة العالميّة لحركات الشباب الأرثوذكسيّ، أن تنقل مقرّها الرئيس إلى بيروت، وذلك بعد أن تمّ انتخاب أمينها العامّ من صفوف حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. وفي زيارة إلى قداسة البطريرك المسكونيّ أثيناغوراس، اقترح عليه الرئيس الجديد لسندسموس أن يطلب من الأب ﻟﻴﭪ الاضطلاع بمتابعة الحاجات الروحيّة للرابطة. وافق قداسته على هذا الطلب عبر رسالة خطّها بتاريخ 20 أيّار 1965. وبـهذه الصفة نظّم الأب ﻟﻴﭪ حملة حجّ إلى مدينة القدس في شهر آب 1965، شارك فيها عدد كبير من الشباب الذين أتوا من أقطار مختلفة وقد ألّف الأب ﻟﻴﭪ لهذه المناسبة نصًّا رائعًا لكي يتمكّن الشباب الحجّاج من تتبّع خطوات يسوع المسيح من كثب في الأراضي المقدّسة. تلا الحجّ مؤتمر دام أسبوعًا واحدًا عُقد في جبل لبنان قاد فيه الأب ﻟﻴﭪ التأمّلات الإنجيليّة (كما فعل في الجمعيّة العامّة لسندسموس في راتفيك، العام 1968)، كما ألقى محاضرة حول “الأخلاق المسيحيّة في عالم متغيّر”. وفي إطار هذا الحجّ تعرّف شباب سويسرا إلى الأب ﻟﻴﭪ وتعلّقوا به وطلبوا منه أن يزورهم في جنيف.
شكّلت هذه الزيارة بدء رسالته في تلك المدينة السويسريّة. فبعد هذا الحجّ وقّع الأب ﻟﻴﭪ المتعب، ولكن المسرور جدًا، إحدى رسائله بعبارة “الحاجّ ﻟﻴﭪ، عبد عيسى سيّدنا وعبد الحركة”!
شهدت الستّينات أيضًا تطوّر لاهوت موت الله في الغرب والمدينة العلمانيّة لهارفي كوكس، و”الصراحة مع الله” لروبنسون. فكان على حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، الموجودة في قلب الحركة المسكونيّة أن تحضّر الجامعيّين الأرثوذكس لمواجهة المشاكل التي طرحتها هذه الاتّجاهات اللاهوتيّة وقد استفادت الحركة في هذا الصدد من رؤية الأب ﻟﻴﭪ الملهمة. من جهة أخرى، قدم العامين 1967 و1970 عدد جديد من اللاجئين الفلسطينيّين إلى لبنان ولم تستطع الحركة أن تبقى لامبالية حيال البؤس والظلم اللذَين عانى منهما هذا الشعب. فقد تبنّى المؤتمر الحركيّ الثاني عشر المنعقد السنة 1970 وثيقة “التزام شؤون الأرض”. وقد تحدّدت في هذه الوثيقة ثلاثة مواقف: الأوّل يشجب الطائفيّة، وهي النظام السياسيّ السائد في لبنان والذي يجعل من الكنيسة طائفة سياسيّة؛ والثاني يؤيّد قيام العدالة الاجتماعيّة؛ والثالث يدعم حقوق الشعب الفلسطينيّ. وقد شارك أعضاء فعّالون من حركة الشبيبة في شهر أيّار 1970 في المؤتمر العالميّ للمسيحيّين من أجل فلسطين الذي أقيم في بيروت. وللمناسبة كتب أحد مؤسّسي الحركة: “فلسطين بالنسبة إلينا هي وجه الإنسان المتألّم. هؤلاء الرجال والنساء الذين طُردوا من أرضهم وقُذفوا باتّجاه الصحراء ليختنقوا فيها، أي ليتحمّلوا الموت الذي تحمّله المسيح، يشكّلون الكنيسة تحت الخيام. فالكنيسة ليست فقط جماعة المعمّدين، بل هي مجموع المضطَّهَدين في الأرض”.
في هذه المرحلة، أنـهى الأب ﻟﻴﭪ في بيروت تأليف كتابه “حبّ بلا حدود” ثمّ سلّم حركة الشبيبة المخطوط الكامل لكتابه “سنة الربّ المباركة”، ولكنّه عبّر في المقابلة مع جو وايس، الذي ذكرناها آنفًا، عن قلقه حيال هذا التطوّر للفكر الاجتماعيّ والسياسيّ في الحركة.
ولكنّه لـمّا عاد في العامين 1972 و1973 إلى لبنان ليتابع عمله في صفوف الطلاّب والعمّال والمسؤولين في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ولكي يتابع تعليمه وعظاته العامّة، عايش حالة التوتّر ثمّ المواجهة الأولى التي نشأت بين الحكومة اللبنانية والفلسطينيّين. ففي الحركة، ناقش الشباب مسألة العنف الثوريّ على ضوء الإنجيل والتقليد، فوجد البعض أنّ الروح القدس يدفعهم إلى هذا العنف. أمّا الأب ﻟﻴﭪ، رسول اللاعنف، فقد أصغى إليهم وتأثّر بصراحتهم ونزاهتهم الروحيّة، وكتب لدى عودته إلى لندن:
“أحاول هنا أن أقدّم شهادة صحيحة، عادلة، ورزينة، لكنّني أجد نفسي أكرّر لهجة إحدى فتيات الحركة” ثمّ أضاف: “أبقى مقتنعًا، شأن أفضل الأشخاص بينكم، أنّ الحرب المحلّيّة انتهت وأصبحت الآن من الماضي، وأنّ الشباب يشعرون بضرورة النضال من أجل إحداث نظم وهيئات جديدة. إنّ هذا النضال يجب أن يتمّ على الصعيد العالميّ من أجل إحقاق العدالة الإجتماعيّة”. والأحداث المأساويّة التي حصلت بين 1975 و1980 قد أكّدت هذه المشاعر. فأمام العنف الأعمى الذي اتّسمت به الحرب، وآلام الضحايا البريئة، والمهجّرين والمعاقين من كلّ الانتماءات، تبنّى الشباب الحركيّ من دون استثناء، الفكرة المبنيّة على أنّ المصالحة وخدمة جميع المتألّمين تحظى الأولويّة على كلّ الاهتمامات الأخرى. حينئذ أُعجب الأب ﻟﻴﭪ بالحركيّين الذين يوزّعون باليد الأولى الأناجيل على المهجّرين والمرضى وبالثانية الأغطية والأدوية. فقد وجد في هذه الخدمة المتواضعة روحيّة المسيحيّين الأوائل ونفحة العنصرة.
لم تستطع مآسي لبنان أن تحول دون عودة الأب ﻟﻴﭪ إليه بانتظام حتّى السنة 1978، وقد كان الأب ﻟﻴﭪ على علاقة دائمة بالذين جعلتهم الحرب يهاجرون إلى الغرب. فلم يشأ أن يترك إخوته وأخواته في الحركة وأصدقاءه اللبنانيّين وحدهم في المحنة. بل كان يزورهم محضرًا إليهم كلمة الإنجيل المحيية في اجتماعات الفرق وعبر الإذاعة والعظات العامّة والجلسات الفرديّة أو بالأحرى في الجلسات القلبيّة الحميمة حيث القلب يخاطب القلب.
لم يعمّر الأب ﻟﻴﭪ ليرى السلام يستتبّ في لبنان الذي أحبّه حبًّا جمًّا. لكنّه رأى كنيسة أنطاكية الأرثوذكسيّة تسير على درب النهضة والتجدّد على عهد البطريركين إلياس الرابع وأغناطيوس الرابع، والأساقفة أمثال جورج متروبوليت جبل لبنان، وإلياس متروبوليت بيروت، والكهنة والرهبان والراهبات الذين يشعّ من خلالهم نور يسوع المسيح.
هل توقّفت خدمته للحركة في سبت لعازر من العام 1980؟ لا أعتقد. أنا أعتقد أنّه يشفع من أجلنا أمام وجه الله، بعد أن أصبح في المقلب الآخر، مع القائم من بين الأموات. لقد شارك الأب ﻟﻴﭪ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة بكلّ ما أغدق عليه الروح من النعم والمواهب الغزيرة على مدى أكثر من ثلاثين سنة. فقد أخرج لنا من هذا الكنز كلّ جديد وقديم، شأن “كلّ كاتب تتلمذ لملكوت السموات”، كما جاء في إنجيل متّى (13: 52)، ناقلاً إلينا بطريقة جديدة أفكارًا كان قد عبّر عنها آباء الكنيسة قديمًا، وأفاض لنا أيضًا نبع ماء حيّ من صخرة النصوص الكتابيّة التي بدت لنا جافّة ظاهريًّا. بلّغنا الأب ﻟﻴﭪ رسالة الربّ يسوع على أنّـها موجّهة شخصيًّا إلى كلّ واحد منّا، ومغروسة في قلب كلّ منّا بواسطة الروح القدس. وكان يحتفل بسرّ الشكر كحدث هامّ، مشدّدًا على عبارة “من أجلكم” في الكلمات التأسيسيّة (“هذا هو جسدي الذي يُكسر” – توقّف لحظة – “من أجلكم” – توقّف لحظة… “هذا هو دمي الذي يُهراق” – توقّف لحظة – “من أجلكم”)، أي من أجل كلّ واحد منّا هنا والآن. لقد دعانا إلى عيش سرّ اللحظة الحاضرة والوفاء إزاء نفحة الروح بأن ندعه يوجّهنا، حتّى في أصغر القرارات؛ وأن ندعه يقودنا، إذا كان التبشير دعوتنا، كما قاد الرسل إلى الأمم. كشف لنا الأب ﻟﻴﭪ مجد الله – المحبّة في وجه يسوع، ووجه يسوع في وجه كلّ إنسان، علّمنا أن نفكّك رموز الطبيعة والكون وغوامضهما لنجعلهما دلالة على الحبّ بلا حدود وتجلّيًا له. كلّمنا عن الكنيسة الأرثوذكسيّة على أنـّها، أكثر من غيرها من الكنائس، تواظب على “تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات” (أع 2: 42). لكنّه وسّع رؤيتنا للكنيسة لتشمل ما هو أبعد من الروحانيّات المسيحيّة، مذكّرًا إيّانا بأنّ الكنيسة، إذا كانت في المكان الذي يتحقّق فيه سرّ القيامة وأعجوبة الخلاص باستمرار، على غرار بركة بيت حسدا، فإنّ الربّ-المحبّة، بذار الكلمة الإلهيّة والنُّور الذي يضيء كلّ إنسان، يواجه باستمرار شقاء كلّ إنسان خارج البركة. باختصار، كان الأب ﻟﻴﭪ، خلال ثلاثين سنة، أبًا وخادمًا للحركة من خلال خدمته لله في صفوف الحركة. وكونه خادمًا أمينًا، عاش بيننا بالبساطة والفقر الإنجيليّين. لم يكن لديه ذهب أو فضّة ليوزّعهما على الناس (بالأحرى كان يطلب منّا أن نعطي الهبات الزهيدة التي طالما حاولنا أن نقدّمها إليه إلى من هم أشدّ فقرًا) بل كانت لديه المواهب التي تلقّاها من الروح التي كان يفيض بـها على الجميع بلا حدود.
إنّ الله وحده، العالم بمكنونات الكلى والقلوب يعلم عمق الأثر الذي تركه الأب ﻟﻴﭪ في أعضاء حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وفي أصدقائه الذين اختاروا طريق الرهبنة أو لبّوا دعوة الكهنوت، أو بقوا في العالم وطلبوا كلمة الحياة بالقرب منه. أمّا نحن الذين اجتمعنا هنا لنحتفل بالذكرى المئويّة الأولى لمجيئه إلى هذا العالم، فلا يسعنا إلاّ أن نشكر الله على الصنيع الرائع الذي تـمّمه من خلال عبده ﻟﻴﭪ! ليكن ذكره مؤبّدًا !
ترجمة كاترين سرور
مجلة النور 2000، العدد الرابع، ص 210-218