في فاتحة القرن الحادي والعشرين، ما زلنا نلمس، هنا وثمّة، حضورًا قويًا لظاهرة “العنصرية” القائمة على مفاضلة يقيمها الإنسان بين الأجناس والأعراق البشريّة، فيستنتج أنّ عرقه هو أنقى الأعراق، وأنّ شعبه أذكى الشعوب، وأنّ بشريّته تسمو على بشريّة غيره، وذلك لمجرّد أنّه وُلد في أحد البلدان أو المناطق، أو لأنّ لون بشرته يختلف عن غيره. هل نحن محصنّون، في سلوكنا اليوميّ وفي تعابيرنا ضدّ العنصريّة؟ هل ممارستنا بعيدة عن تأثيرات العنصريّة؟
من النافل القول إنّ تعاليم الأديان وقيمها، وبخاصًة المسيحيّة والإسلام، تدعو إلى نبذ العنصريّة ومحاربتها. “لا يهوديّ ولا يونانيّ”، “لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلاّ بالتقوى”… ولكن، هل واقع المؤمنين يماثل المثال الدينيّ؟ أم أنّ المؤمنين يعيشون في فصام مع تعاليم إيمانهم؟
في الواقع، قلّما نتحسّس في مجتمعاتنا لما يعانيه البعض ممّن يسكن بين ظهرانينا، فإذا عوملت السيرلنكيّة أو الحبشيّة ككائن دون البشر، يمرّ هذا الموضوع كأمر طبيعيّ ولا يثير فينا أيّ ردّ فعل يثور ضدّ ما هو موجّه ضدّ إنسانيّتها. وهكذا، تتماهى مدبّرة المنزل (حتّى نستعمل تعبيرًا مهذّبًا فلا نقول الخادمة) مع السيرلنكيّة أو الحبشيّة أو الفيليبينيّة (لكلّ فتاة درجة تنتمي إليها بحسب ثمنها، فهي مجرّد سلعة أو قطعة من الأثاث). وتتماهى الفتيات ذوات الجنسيّات الأوروبيّة الشرقيّة (الرومانيّة، الأوكرانيّة، الروسيّة…) مع الدعارة والبغاء…
ذات مرّة وصلت إلى مطار بيروت من سفر، فاشمأززت لرؤيتي رتلاً من السريلنكيّات ينتظرن دورهن ليستلمهنّ سيّدهنّ الجديد الذي يصادر جواز سفرهنّ منهنّ حتّى يأمن لخضوعهنّ المطلق له. عصر الجواري وبيع العبيد في سوق النخاسة ما زال مستمرًا وهذا في عصر التشدّق بحقوق الإنسان والحريّة.
نقرأ في الصحيفة اليوميّة أنّ أحد المسابح التي يرتادها عليّة القوم (هم عليّة القوم بنظرهم وليس بنظرنا!) منع السريلنكيّات ومثيلاتها ممّن يرافقن سيّداتهنّ من أن يشاركن في السباحة في الحوض ذاته، هذا يذكّرني بيافطة عُلّقت أيّام التمييز العنصريّ (هل انتهت تلك الأيام؟!) في الولايات المتّحدة الأميركيّة كُتب عليها: “منوع دخول العبيد والكلاب”. كما نقرأ في الصحيفة اليوميّة تحقيقًا عن المعاناة التي يعيشها بعض مواطنينا ممّن اقترنوا بفيليبينيّات، بسسب رفض الأهل والبيئة المحيطة مثل هذا الزواج، لكأنّ الفيليبينيّات دوننا في الإنسانيّة.
الأمثلة كثيرة ، وثمّة في بلادنا أشخاص، بقوّة القانون، لا يحقّ لهم تملّك بيت أو شقّة، لأنهم ينتمون إلى بلد معيّن، أغلبهم وُلد في بلادنا، ولكن حفاظًا على “التوازن” (على حدّ تعبير الغيارى على الطائفيّة والمستفيدين منها)، أو منعًا للتوطين لم يحصلوا على جنسيّة البلد الذي وُلد فيه ونموا ودرسوا وعملوا… أليس هذا تمييزًا يتعارض وفكرة حقّ الإنسان الطبيعيّ بأن يكون له منزل يسكن إليه؟
ما يعنينا هو أنّ المؤمنين صامتون تجاه هذه الظواهر الموجودة في مجتمعاتهم. تراهم يطالبون بالحرّيّة، ويمنعونها عن سيرلنكيّات”هم” (والضمير، إذا وُجد أصلاً!، يفيد الامتلاك كما يمتلك الإنسان سيّارة مثلاً). تراهم يطالبون بحقوق الإنسان ويبرّرون للشارع (المقصود بالشارع، هنا هو المشرّع وليس الطريق) منعه إنسانًا آخر من شراء شقّة سكنيّة، ويشغلّون سريلنكيّات”هم” أربعًا وعشرين ساعة في اليوم، مع العلم أنّ قانون العمل يحدّد عدد ساعات العمل بثمانٍ، كحدّ أقصى، يوميًا. ولن نتحدّث عن راتبهنّ والضرب والركل الذي يعانينه والاعتداءات التي يتعرّضن لها!
طبعًا لا نتهّم كلّ مجتمعنا بهذه الآفات، ولكن ما يحيّرنا هو صمت المتفوّهين والمطالبين بأمور أخرى، لا شكّ في أنّها هامّة لبنيان البلد، ولكن ما نؤمن به أيضًا هو أنّ حقوق الإنسان والحريّة كلٌّ لا يتجزّأ، ولا استنساب في المطالبة بحيازتهما. عندما لا يحترم الإنسان حقّ غيره، هل يحقّ له بالمقابل أن يطالب بحقّه؟ ألا يتوسّل عنوانًا كبيرًا (حقوق الإنسان، الحرّيّة…) لما يطلبه، ويحرم الآخرين ممّا يطالب به لنفسه؟ أليس الصامت عن الظلم اللاحق بهؤلآء المستضعفين والمستضعفات شريكًا للظالمين؟
العنصريّة داء متحكّم بمجتمعنا، ويبدو أنّه متحكّم في كلّ مجتمعات العالم (هذا لا يبرّر الحالة العامّة، فالظاهرة العامّة لا تعني صحتّها بالضرورة). وهو داء مميت، على الصعيد الإنسانيّ ولكن الروحيّ أيضًا، لمن يغضّ طرفه عنه. العنصريّة هي التجسيد الأقوى لخطيئة الكبرياء ونقيصة الاحتقار. والإنسان العنصريّ مريض بالسلطة والقوّة ويمارس العنف المادّيّ والمعنويّ على الغير المختلف عنه، والعنف المعنويّ أقسى وأشدّ هولاً على نفسيّة الإنسان من القتل المادّيّ.
كلّ الناس خُلقوا على صورة الله ومثاله، فلنحترم الله فيهم. كلّهم.
مجلة النور، العدد السابع 2001، 346-347