القدس على الرجاء

الأب جورج مسّوح Wednesday June 15, 2005 166

الأب جورج مسّوح

 

من البديهيّ القول إنّ القدس هامّة لأنّها أورشليم الأرضيّة التي ترمينا في حضرة ابنها البارّ الربّ يسوع المسيح الإله المتجسّد.

ولأنّ ترابها وحجارتها وأزقّتها شهدت على تعاليم الربّ يسوع ومعجزاته ورحلاته البشاريّة وآلامه الخلاصيّة وصلبه وقيامته.

ولأنّ المسيح شرب من مائها وأكل من طعامها ونام تحت شجرها الوارف متوسّدًا حجرًا من حجارتها وملتحفًا سماءها العارية.

ولأنّها إحدى الكراسي البطريركيّة الخمس في هذا المشرق المجاهد دائمًا في وجه طغاة العالم الطامع في خيراته.

ولأنّها المدينة الوحيدة التي تتّفق على قداستها الديانات ذات الأرومة الساميّة الثلاث اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام.

ولأنّها تحتضن هيكل سليمان، والقبر المقدّس وكنيسة القيامة، والمسجد الأقصى، وكلّ الآثار الدينيّة القائمة والدارسة على السواء.

ولأنّها ذات تاريخ عريق، وتعاقب على العيش فيها الأنبياء والقدّيسون والصالحون والأبرار، وتبارك من أرضها الكثير من الحجّاج.

لكنّ القدس ظلّت هامّة عبر التاريخ المسيحيّ الممتدّ منذ ألفي سنة، لأنّ فيها كنيسة حيّة ما زالت تنبض بالإيمان. فلولا الوجود البشريّ المستمرّ لكان كلّ ما ذكرناه مجرّد متاحف باردة لا حرارة فيها، مجرّد متاحف تقتصر مهمّتها على اجتذاب السيّاح من أقطار الدنيا كافّة. ولولا هذا الوجود البشريّ لكان كلّ ما أوردناه من حجج مجرّد ذكريات انقضت لا يليق بها سوى بعض صفحات الكتب المرميّة على رفاف المكتبات تقتاتها الحشرات الميكروسكوبيّة.

من هنا، أهمّيّة الحفاظ على الوجود الإنسانيّ في فلسطين المحتلّة، فلا نريد لمسيحيّي فلسطين أن ينقرضوا كما انقرض المسيحيّون في بقاع أخرى من العالم مثلما هو الحال في إفريقيا الشماليّة أو في آسيا الصغرى.

لذلك ينبغي النظر من هذه الزاوية إلى أحوال الكنيسة الأرثوذكسيّة في أورشليم-القدس، حيث يبلغ الصراع العربيّ الإسرائيليّ أوجه، وحيث توقّفت مفاوضات السلام بين الطرفين بسبب أمتار معدودة من هنا أو من هناك. فالمتر المربّع الواحد في القدس يضاهي، في أهمّيّته، مئات الكيلومترات المربّعة في مناطق أخرى مجاورة للقدس. فالقيمة المعنويّة للمتر المربّع الواحد تفوق، بما لا يقاس، قيمته المادّيّة.

لذلك كلّ عمليّة بيع للأوقاف الأرثوذكسيّة، في القدس خصوصًا، هي عمليّة مدانة وتنبغي محاسبة كلّ المسؤولين عنها قانونيًّا ومعنويًّا. لكن أيضًا ينبغي العمل من أجل استباق أيّ عمليّة بيع مستقبليّة قد يقوم بها المسؤولون عن الكنيسة. لقد قيل إنّ وجود بطريرك يونانيّ على رأس الكنيسة الأرثوذكسيّة في القدس يساهم، بشكل أفضل ممّا لو كان البطريرك عربيًّا، في حفظ الأوقاف الأرثوذكسيّة من الأطماع الإسرائيليّة. لكن يبدو أنّ هذه الذريعة الواهية قد سقطت سقوطًا عظيمًا، من حيث إنّنا نشاهد التفريط غير المسبوق بممتلكات الكنيسة المقدسيّة المقدّسة.

انطلاقًا من هذا كلّه ومن التقليد الأرثوذكسيّ الشريف الذي يؤكّد أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة هي في الأصل «كنيسة محلّيّة»، أي تدير شؤونها وقضاياها ومشاكلها بنفسها، تنشأ الدعوة إلى العمل على تعريب القيادة الكنسيّة في فلسطين، فأبناء البلد أشدّ حرصًا من سواهم على ممتلكات كنيستهم. قد يتطلّب هذا التعريب وقتًا، والرجاء ألاّ يكون على المستوى البعيد، بل في أقرب سانحة.

تعرّبت قيادة كنيستنا الأنطاكيّة المقدّسة في نهاية القرن التاسع عشر، وأدّى هذا إلى نهضة ما زالت فاعلة في الميادين كافّة، وبخاصّة على الصعيد الروحيّ والتعليميّ والعمرانيّ. ولا ريب في أنّ النهضة هذه ساهمت أيضًا في تعريب اللاهوت الأرثوذكسيّ، فبرز في الكنيسة الأنطاكيّة العديد من اللاهوتيّين الذين وضعوا مؤلّفاتهم باللغة العربيّة، أو عرّبوا العديد من مؤلّفات الكتّاب الأرثوذكس الذين اشتهروا في العالم. كما بات التزام الشباب بكنيستهم وتعاليمها، بفضل هذه النهضة، أكثر قوّة وبهاء.

من أجل نهضة الكنيسة الأرثوذكسيّة المجاهدة في فلسطين المحتلّة، ومن أجل أن يشعر الربّ يسوع المسيح أنّه ليس غريبًا في كنيسته المحلّيّة حيث ولد وعاش وقام من بين الأموات، فلنعمل من أجل عودة الكنيسة إلى أبنائها من أهل البلد، كي لا يغتربوا عنها إلى الكنائس الأخرى التي يرأسها أساقفة من مواطنيهم المجاهدين أيضًا من أجل البقاء في أرضهم وأرزاقهم.

 

مجلة النور، العدد الرابع 2005، ص 178-179

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share