“كنْ في الفتنة كابن اللَّبون: لا ظهرٌ فيُركب، ولا ضرعٌ فيُحلب”
عليّ بن أبي طالب، نهج البلاغة
الأب جورج مسّوح
يذهب المؤمن من التزامه الكنسيّ إلى العمل في الشأن العامّ. فهو مدعوّ إلى الشهادة للمسيح في المجتمع الذي يحيا فيه، وتحسين شروط الحياة لمواطنيه، بحيث يكون نضاله مكرّسًا في سبيل رفعة الإنسان وكرامته. لذلك، يكون حضوره في الشأن العامّ نابعًا من رسالة الإنجيل وتعاليمه، وصابًّا في ما هو لخير الإنسان وازدهاره. من هنا، تنبسط أمامنا إشكاليّة التناغم بين إخلاصنا للإنجيل وانخراطنا في الخيارات الوطنيّة المتنازعة.
لا بدّ، بدءًا، من أن نتّفق على أنّ انتماءنا الكنسيّ لا يفرض علينا أن يكون خيارنا الوطنيّ واحدًا. ولا تملي علينا القيادة الكنسيّة رأيًا واحدًا في المسائل المتصارع عليها في النقاش الوطنيّ. فالكنيسة توجّه المؤمنين، في إرشاداتها، إلى أن يسلكوا بحسب الإنجيل في ما لا يتناقض والفرضيّات الأساس الواجب عليهم انتهاجها. فواجب الكنيسة حثّ المؤمنين على مواجهة التحدّيات من أجل جعل هذا العالم الذي يحيون فيه أفضل. لذلك، تكتفي الكنيسة بالتوجيهات العامّة ولا تفرض على أبنائها نهجًا واحدًا يسلكونه، بل تترك لضمائر المؤمنين أن يترجموا هذه التحدّيات ويبلوروها في خيارات متعدّدة متحرّرة من هواجس الكتلة المتراصّة الواحدة. فلا يرجم مَن اختار لنفسه نهجًا الذين اختاروا لأنفسهم نهوجًا أخرى، ولا يكفّرهم أو يخوّنهم.
يسعنا القول، إذًا، إنّ الصيغة الأقرب إلى الفكر الكنسيّ هي تلك القائمة على القبول بالتعدّديّة السياسيّة كإطار للتنافس المثمر على غير صعيد. فالتعدّديّة تقوم على قبول الآخر المختلف واحترامه ومعاملته على قدم المساواة، وعلى قاعدة المواطنة الصحيحة التي لا تميّز بين أبناء الوطن الواحد طائفيًّا أو مذهبيًّا أو مناطقيًّا أو عُرقيًّا. ويمكن المراقب أحوالنا اليوم أن يسجّل، ببداهة معقولة، غياب مفهوم المواطن لحساب تضخّم الانتماء الطائفيّ. الطائفيّة تلغي المواطن لحساب الكتلة الجوهريّة الواحدة. وهذا يعني، تاليًا، أنّ التراصّ يقتل فرادة الإنسان، ممّا يتعارض كلّيًّا مع الفكر المسيحيّ الحقّ.
الصورة المثلى، التي تدعونا إليها الكنيسة، هي أن نكون جسدًا واحدًا مؤلّفًا من أعضاء لها وظائفها المختلفة والمتنوّعة، بحيث تتكامل لما فيه خير الجسد كلّه. هكذا يلتمس الرسول بولس من المؤمنين أن يسلكوا في الدعوة التي دُعوا إليها «محتملين بعضكم بعضًا بالمحبّة، ومجتهدين في حفظ وحدة الروح برباط السلام» (أفسس ٤: ٣٢). ثمّ يتابع مذكّرًا المؤمنين بوحدتهم الكنسيّة ذلك بأنّ لهم ربًّا واحدًا وإيمانًا واحدًا، وأنّهم وُلدوا جميعًا من معموديّة واحدة. لكنّ هذه الوحدة لا تلغي الفرادة التي يتحلّى بها كلّ واحد من أفراد الجماعة، فيقول الرسول: «ولكلّ واحد منّا أُعطيت النعمة على مقدار موهبة المسيح» (أفسس ٤: ٧).
تحقيق السلام هو المهمّة الأساس للمؤمنين، لذلك وجب السعي إلى أن يصبح العالم كلّه صورة مسبقة للملكوت الآتي. فالسلام هو السمة الغالبة على ذاك الملكوت المرجوّ اكتماله. فالتحدّي الحقيقيّ الذي يواجه المسيحيّين يكمن في قدرتهم على جعل الملكوت الآتي حاضرًا «الآن وهنا»، لا غدًا أو بعد غد. وهذا ما عبّر عنه لاهوتنا المستند إلى الكتاب المقدّس، منذ العهد القديم مع الأنبياء المجاهدين ضدّ الظلم والغيّ والعدوان، وصولاً إلى العهد الجديد، حيث صارع يسوع الشرّ وانتصر عليه حين قبل الصليب من أجل أن يُبطل الموت. المحبّة أقوى من الشرّ، لذلك تغلبه وتقضي عليه.
«كما أرسلتني إلى العالم فكذلك أنا أرسلتهم» (يوحنّا ٧: ١٨)، بهذه الكلمات يتوجّه الربّ يسوع في خطابه الوداعيّ إلى الآب. أمّا المهمّة المطلوب من التلاميذ، وتاليًا منّا نحن، إتمامُها فليست سوى الشهادة للحقّ: «وأنا ما وُلدت وأتيت إلى العالم إلاّ لأشهد للحقّ» (يوحنّا ١٨: ٣٧). المسيح لم يستقِل من مهمّته، بل أبلغها ذروتَها حين قبل أن يسمَّر على الصليب. هكذا ممنوع على المسيحيّ الاستقالة من شؤون الدنيا والناس، فيكون أمينًا على الوزنات التي سلّمه إيّاها الربّ. فلا مساومة، ولا استسلام، ولا حلول وسطيّة. بل كلمة الحقّ في كلّ حين إلى أن يرث الربّ الأرض ومَن عليها.
مجلة النور، العدد التاسع 2006، ص 482-483