الإخلاص للإنجيل في الزمن الخسيس

الأب جورج مسّوح Wednesday January 31, 2007 213

كيف يمكن المسيحيّ أن يبقى مسيحيًّا في وقت يختلف فيه أبناء الوطن الواحد بين خيارات متعدّدة؟

وكيف يمكنه أن يعزّز إخلاصه للإنجيل فيظلّ أمينًا على تعاليم الربّ؟

لا بدّ، بدءًا، من القول إنّ الأنبياء، وخاتمهم القدّيس يوحنّا المعمدان، لم ينأوا بأنفسهم عن قضايا مجتمعاتهم وناسها. فوقفوا في وجه الطغاة والمستكبرين من الملوك والولاة، ووبّخوهم، ودعوهم إلى التوبة، لأنّ اللَّه سيدينهم إن لم يرتدعوا، ويثوبوا إلى طريق الحقّ. كانوا صرخة حقّ «في البرّيّة»، البرّيّة بالمعنى المباشر لهذا اللفظ، ولكن أيضًا البرّيّة مأوى الوحوش والأفاعي والعقارب، ورديد الصدى… ودفعوا الثمن غاليًا لأنّهم رفضوا المساومة، فلم يقبلوا بالصمت لقاء بعض المنافع الدنيويّة البائدة. طلبوا وجه اللَّه وحسب، فكان لهم ذلك.

وفي ملء الزمان أرسل اللَّه ابنه الوحيد، «ليخلّص ما قد هلك». كانت غاية النبوّة، في العهد القديم، التبشير بمجيء المسيح المخلّص. كلّ ملوك العهد القديم لم يستطيعوا أن يحلّوا محلّ هذا المسيح المنتظر. حاول البعض منهم جهودًا جبّارة لكي يقيموا السلام والعدل، ولكن عبثًا، إذ كانت غواية السلطة أقوى من أن تجعلهم «يموتون من أجل الشعب». لذلك، قلب المسيح المفاهيم رأسًا على عقب حين أعلن أنّ السلطة تكمن في الخدمة وفي البذل والتضحية «حتّى الصليب». لا قيمة لأيّ سلطة إن لم تكن في سبيل «غسل الأرجل».

من هنا، يسعنا أن نفهم، بقراءة متمدّدة بعض الشيء، قول الربّ في الموعظة على الجبل: «لا يستطيع أحدٌ أن يعبد ربّين لأنّه إمّا أن يُبغض الواحد ويحبّ الآخر أو يلازم الواحد ويرذل الآخر. لا تقدرون أن تعبدوا اللَّه والمال» (متّى ٦، ٢٤). المال هو رمز القوّة والسلطة في هذا «العالم» الذي قال عنه الربّ إنّ ثمّة «رئيسًا» له هو الشيطان. الصحيح أنّ المسيح قد غلبه، إذ قال «الآن يُلقى رئيس هذا العالم خارجًا» (يوحنّا ١٢: ٣١). غير أنّ مَن تمّ إخراجه من الباب عاد فدخل من النافذة بفضل الجشع والشراهة المتفاقمين عند بني البشر.

إن أنعمنا النظر بما يحوط بنا، لوجدنا أغلب الناس قد عادت إلى ما يشبه «عبادة الإمبراطور» في ذلك الزمن الغابر الذي رفض فيه الشهداء المسيحيّون، الشهداء الحقيقيّون، هذه العبادة، فانتصروا بصدورهم العارية وأجسادهم التي أنحفها الزهد. باتت الناس تأتمر بأوامر القائد السياسيّ، وترتشد بإرشاداته، وتهتدي بهديه، وتعده بالاستفداء بالأرواح والدماء والولد والدار. ولا نظنّنا نغالي إن شبّهنا علاقة اللبنانيّين بزعمائهم بالعبادة الوثنيّة المتوشّحة بعباءة الطوائف، أو الحزبيّة الضيّقة، أو الإيديولوجيّات المتعدّدة المنتحلة صفات العلمانيّة والاشتراكيّة والديمقراطيّة وسواها من القيم البرّاقة المفرّغة من مضامينها الأوّليّة.

نحن هنا لا ندعو إلى الاستقالة من الالتزام بقضايا المجتمع والناس. لكنّنا نحذّر من الالتزام الأعمى بإحدى الإيديولوجيّات أو الحزبيّات، والانقياد الهيّن والانصياع الكلّيّ لأوامر هذا الرجل السياسيّ أو ذاك. فالأحزاب اللبنانيّة، في مجملها، غير ديمقراطيّة، ولا تيسّر أنظمتها الداخليّة التغيير على مستوى القيادة، وهي تنحو إلى الاستبداد والاستعباد. وهي تعمل بموجب مبدأ «فرّق تسُد» بين أبناء الوطن الواحد. وثمّة أحزاب مغلقة لا تتيح إلاّ لمنتمين إلى طائفة محدّدة أن ينضووا إليها.

لذلك يسعنا القول إنّ الالتزام الكنسيّ والالتزام الحزبيّ خطّان متوازيان لا يلتقيان. فالتحزّب يتطلّب من المتحزّبين الطاعة الكلّيّة، والتنفيذ الآليّ. لذلك نرى الحزبيّين يدافعون عن عقيدتهم أو إيديولوجيّتهم ولو كانت تتّخذ منحًى غير متّفق مع الإيمان. ثمّة زعيم الحزب أو القائد المطاع مهما كان الثمن، وثمّة نوع من غسيل للدماغ يمارس في الأحزاب، بحيث بتنا نرى المنتمين إلى حزب من الأحزاب مجرّد ببّغاوات تردّد ما يقوله الزعيم الأوحد، حتّى باللكنة ذاتها وحركات اليدين والتغميزات عينها.

الانتماء الحزبيّ لا بدّ من أن يتعارض والانتماء الكنسيّ في العديد من المواقع، فالرسول بولس يوبّخ الكورنثيّين لأنّهم انقسموا أحزابًا، فيقول: «وإذا كان أحدُكم يقول: أنا لبولس. والآخر: أنا لأبلّس، أفليس في ذلك دليل على أنّكم تتصرّفون تصرّفًا بشريًّا؟»، وهو يقصد في هذا المقام أنّهم يتصرّفون بما يخالف الإنجيل. الكائن الكنسيّ لا يسعه أن يكون متحزّبًا إلاّ للحقّ، أي ليسوع المسيح. والأحزاب كلّها لا يهمّها الحقّ، بقدر ما يهمّها إرضاء زعيمها ورفعه إلى أسمى المراتب والمواقع ولو بالباطل وبما يتناقض ووصايا اللَّه.

لذلك، يبرز أمامنا الوضع المميّز للبنان، المميّز بالمعنى السلبيّ للفظ. فكلّ كلام نظريّ يبدو كأنّه لا علاقة له بالواقع المرير، فيسقط بحكم عدم اكتمال شروط تنفيذه. فلبنان ليس بلد مواطنين كاملي المواطنة، بل هو بلد يقوم على توازن قوى قوامه الطوائف وماسكو أمورها من الزعماء والمتواطئين معهم من أصحاب المصالح والمنافع الدنيا. لذلك، سرعان ما يتحوّل أيّ مطلب ترفعه إحدى مكوّنات البلد، في البازار السياسيّ اللبنانيّ، إلى الرصيد المضاف لهذه الطائفة أو تلك. وعندها لا يجدي الكلام على مطلب حقّ أو مطلب باطل. فمعيار الاصطفافات السياسيّة هو مصلحة الطائفة، أو هكذا يتمّ تزيين الأمر في أذهان المطالبين والمعترضين على حدّ سواء. وما نشهده اليوم لدليل على كيفيّة الخلط بين الطائفيّ والوطنيّ في لبنان، وعلى الانحدار الذي بلغه البلد والخطاب السياسيّ فيه بحيث يستقوي السياسيّون بأبناء طوائفهم وكهنتها وفقهائها في سبيل مصالحهم الذاتيّة، متناسين الأهمّ وهو كرامة الإنسان الفرد المواطن الذي إن بقي مغيَّبًا وراء متاريس أهل الطوائف لن تقوم للبلد قيامة.

المسيحيّ مدعوّ، في هذا الظرف الواعد بالمزيد من النزاعات والصراعات بين «الأخوة الأعداء»، إلى أن يعي، بالحرّيّة التي حباها اللَّه له،كيف يؤدّي «ما لقيصر لقيصر وما للَّه للَّه»، من دون الغرق في ثنائيّة متعارضة يمجّها الفكر المسيحيّ الأصيل.l

 

 

مجلة النور، العدد الأول 2007، ص 2-3

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share