الحضور المسيحيّ كلمة؟

الأب جورج مسّوح Saturday September 15, 2007 200

يشهد مشرقنا العربيّ منذ ما يزيد على عقد من السنوات تناميًا في الخطاب المتشدّد في كلّ الميادين. فلا يمكن عزل السياسيّ عن الدينيّ عن المذهبيّ عن الطائفيّ في جوّ ما فتئت غيوم الفتن تتراكم وتتشكّل وتنبئ بعواصف عاتية، آتية لا ريب فيها، لن تبقي ولن تذر بشرًا ولا حجرًا. وقد بات أبناء هذا المشرق يتعايشون مع ما يسعنا تشبيهه ببداهة الموت، إذ صار هذا الأخير جزءًا أصيلاً من حياتنا اليوميّة، في الصبح والغدوّ والأصال. فيوم يمرّ من دون عنف يذهب ضحيّته العشرات من الأبرياء هو يوم استثنائيّ على غير صعيد يدخل في موسوعات الأيّام غير الاعتياديّة، تحت باب البدائع والعجائب.

لا شكّ في أنّ العامل الدينيّ يؤثّر كثيرًا في عالمنا اليوم، ليس فقط في «مهد الديانات السماويّة»، بل في كلّ مكان تشرق فيه الشمس وتغرب. غير أنّ هذا العامل يأخذ في مشرقنا أبعادًا عنفيّة وتقسيميّة ربّما لا تتوافر لها الفرص كي تكون فاعلة في بقاع أخرى من المعمورة. وذلك يعود لأسباب عديدة هي نتيجة قرنين من الإحباط المتراكم. فما يسمّى عصر النهضة العربيّة انتهى إلى تخلّف عظيم عن ركب الحضارة الحديثة. أمّا الأحلام التي راودت أركان هذه النهضة من أجل بناء دولة عصريّة على غرار الدول الراقية، فقد سقطت سقوطًا ذريعًا وتحطّمت على صخور الواقع المرير.

هكذا وجدنا مشاريع الإصلاح الإسلاميّ، بدءًا من جمال الدين الأفغانيّ ومحمّد عبده، ومحاولات مصالحة الإسلام والمسلمين مع العصر الحديث تبوء بالفشل. وها نحن نشهد ذروة الخيبة مع احتلال الإسلام العنفيّ مجمل الصورة الحاليّة عن الإسلام، كاسفًا الإسلام المعتدل (والاعتدال هنا ليس بالمعنى الذي تستعمله الإدارة الأميركيّة) الذي ما زال له حضوره الكبير في العالم الإسلاميّ، غير أنّه أضحى بلا حول ولا قدرة على التأثير في مجريات الأمور.

وفي المقلب الآخر، سقطت كلّ الإيديولوجيّات التي كان من روّادها العرب المسيحيّون، وإنْ كانوا على مسافة من الانتماء الكنسيّ، والتي كانت في الأصل تحمل بذورًا إصلاحيّة، لكنّها لم تؤتَ ثمارها. فالعلمانيّة لم تجد لها تربة خصبة توائمها في العالم العربيّ، والقوميّات على أنواعها تحوّلت إمّا إلى أنظمة حرّمت الحرّيّة على أبنائها باسم قضايا عليا أو احتجاجًا بشعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، أو إلى أحزاب ضاقت فيها مساحة التعدّديّة إلى حدّ الانعدام، كما تحوّل بعض هذه القوميّات الضيّقة إلى حركات عنصريّة تمجّد ذاتها وتنكر على الآخر إنسانيّته لمجرّد أنّ أجداده لا يمتّون بِصلة إلى عرقها النقيّ…

وتواكَب هذا السقوط مع – أو حدث بسبب –  زرع الكيان الإسرائيليّ في قلب فلسطين، واكتشاف النفط والأطماع الاقتصاديّة الناشئة عنه. فتقهقرت المجتمعات العربيّة، في أزمنة متعاقبة، وبدأت تتشقّق إلى مذاهب يكفّر بعضها بعضًا، وطوائف تتناحر وتتنازع المواقع والمراكز في الدولة التي جلّ ما يسعنا أن نصفها به هو «المزرعة» بالقياس العبقريّ اللبنانيّ للأمور. وما زلنا ننحدر من درك إلى أدنى، حتّى بات البعض يبشّر بنشر النموذج اللبنانيّ الطائفيّ – ونِعْمَ النموذج – واعتماده في دول الجوار، ودونكم العراق مثالاً صاعقًا على نجاح هذا النموذج الفذّ.

وأخيرًا بدأ يروج في العديد من وسائل الإعلام الحديث عن هجرة المسيحيّين العرب من بلدانهم الأمّ إلى بلاد الشتات القصيّة. وهذا الكلام الإعلاميّ لا يقوم على انطباعات صحافيّة، بل على معطيات وأرقام لا تبتعد كثيرًا عن الصحّة والدقّة والصدقيّة. فالعراق يكاد يخلو من مسيحيّيه، ومسيحيّو فلسطين يواجهون المصير عينه، وفي لبنان اختلّ الميزان الطائفيّ عمّا كان عليه سابقًا. فهل يمكن تلمّس بعض وجوه المستقبل المسيحيّ في دنيا العرب؟

هذا السؤال الكبير لسنا نزعم أنّنا نملك الجواب الشافي والوافي عنه. هذا بحاجة إلى مؤتمرات وندوات يتداعى إليها، قبل أصحاب الاختصاص والمطّلعين على دقائق التفاصيل، الغيارى ممّن يشغلهم الحضور المشرقيّ المسيحيّ. وقلنا «الحضور المسيحيّ» ولم نقل «الوجود المسيحي»، فشتّان ما بين الأمرين، فالوجود لا يعني الحضور، بينما الحضور يعني الوجود زائدًا الفاعليّة. كلامنا هذا لا يعني البتّة البحث عن وحدة مسيحيّة عمادها الموقف السياسيّ الموحّد، أو ما شابه ذلك من الاصطفافات الدينيّة بإزاء الآخرين، بل البحث عمّا يرسّخ الإرادة المسيحيّة في البقاء في قلب هذه المنطقة شهادةً حيّةً تتناسب والمسيح المصلوب والقائم من بين الأموات.

لسنا هنا لننعى الحضور المسيحيّ الذي لم تنفعه كلّ الحروب الطائفيّة والادّعاءات بأنّ السلاح هو خير مَن يضمن بقاء المسيحيّين حيث هم في بلادهم. ودروس التاريخ بالغة العبر لمن يشاء أن يعتبر. وليس التعالي ولا الاستكبار، وليست الأحلاف الخارجيّة، على أنواعها، هي مَن يضمن دوام المسيحيّ في أرضه.

لقد كان المسيحيّون العرب، في القرنين الماضيين، السبّاقين في إطلاق الأفكار الخلاّقة، وإنْ لم تؤدِّ إلى نتيجة كما أسلفنا، في سبيل نهضة حقيقيّة لمنطقتنا. هؤلاء لم يغرب عن بالهم للحظة استحالة أن تتحقّق نهضة المسيحيّين بمعزل عن نهضة المسلمين، بل كانوا متيقّنين أنّ نهضة المسلمين هي الباب إلى نهضة المسيحيّين. لذلك سعوا إلى نهضة تعمّ المنطقة كلّها كي ينالهم قسط منها. فهل ما زال لمسيحيّي القرن الحادي والعشرين في مشرقنا كلمةٌ يقولونها أو فكرةٌ يطرحونها كي يكونوا حقًّا ملح هذا المشرق؟

 

مجلة النور، العدد السادس 2007، ص 290-291

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share