رحل جورج حبش. ورحيله يؤذّن بزوال مرحلة عاشت أجيالها أحلام تحرّر ونهضة وتقدّم. هذه الأحلام التي شارك بصنعها جورج حبش قد خبت منذ فترة، ورحيله أتى صفعةً للذين ما زالت تراودهم الأحلام الورديّة، فاستفاقوا على واقع مرّ تزداد مرارته يومًا بعد يوم. القضيّة الفلسطينيّة، القوميّة العربيّة، اليسار، العلمانيّة، عناوين تفرض نفسها على ذاكرة أبناء النصف الثاني من القرن العشرين عند ذكر جورج حبش.
لكنّ الصحيح أيضًا أنّه لا يمكننا المرور على كلّ تلك العناوين من دون وصلها بالمسيحيّة العربيّة وحضورها على الساحة الوطنيّة والثقافيّة. وإن لم يكن جورج حبش ينطلق من هويّة مسيحيّة أو أرثوذكسيّة في نضاله الدائم، غير أنّه مثّل نموذج المثقّف المسيحيّ العربيّ الذي تتجاوز هويّته الانتماءات الطائفيّة والمناطقيّة الضيّقة إلى فضاء العروبة الرحب والإنسانيّة الشاملة. من هنا يسعنا اعتبار رحيل حبش رحيلاً لصورة المسيحيّ العربيّ كما كان آباء النهضة العربيّة وروّادها ينظرون إليها.
“حكيم الثورة” رحل والأمراض تستفحل في الجسد الفلسطينيّ. من تنازل إلى تنازل لم يبقَ للشعب الفلسطينيّ إلاّ أن يتنازل عن حقّ استنشاق الهواء في أرضه ودياره. لم يبقَ له إلاّ هذا. من وحدة فلسطينيّة نموذجيّة قبل أوسلو إلى تشرذم فلسطينيّ غير مسبوق بعدها. من المطالبة بفلسطين واحدة حدودها البحر والنهر إلى دويلتين، غزّة ورام الله، تتراشقان الاتّهامات. قضيّة فلسطينيّة باتت غائبة عن ضمير العرب ووجدانهم. بات لا يهمّهم إلاّ نسيانها ودفنها إلى الأبد كي لا تقضّ مضاجعهم الهانئة.
مؤسّس “حركة القوميّين العرب” رحل والقوميّة العربيّة بات عدد الذين يصدّقون دعاتها قلّة قليلة، وبخاصّة بعد أن تحوّل مشروع القوميّة العربيّة من مشروع تحرّر للإنسان العربيّ إلى أنظمة دكتاتوريّة تحكم باسم العروبة وتقمع الحرّيّات على أنواعها. أنظمة كفّرت الناس بالقوميّة العربيّة ودفعتهم إلى أحضان التشدّد الدينيّ الذي هلّل منظّروه لهزيمة العرب أمام إسرائيل عام 1967 لأنّهم لم يحاربوا تحت راية الإسلام، فاستحقّوا الذلّ والهوان. جورج حبش القوميّ العربيّ كان حرًّا من الأنظمة، نقيًّا منها، جريئًا، وقابلاً للآليّات الديمقراطيّة العاملة ضمن الأطر التي كان ينشط فيها، ولا سيّما في إطار منظّمة التحرير الفلسطينيّة.
جورج حبش، اليساريّ المؤمن بالعلمانيّة، سليل كوكبة من مفكّري عصر النهضة الذين رأوا في فصل الدين عن الدولة سبيلاً إلى درء الفتن الطائفيّة والانقسامات العاموديّة بين أبناء المجتمع الواحد. منذ القرن التاسع عشر يحدّثنا فرح أنطون، ابن الميناء، طرابلس عن ضرورة فصل السلطتين المدنيّة والدينيّة إن شاء العرب التقدّم والتطوّر وإيجاد مكان لهم تحت الشمس. واليوم مع احتلال الحركات الدينيّة المتشدّدة كامل المشهد السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ تستوطن الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، فلسطين، لبنان، العراق نماذج حيّة. ومع ذلك يستمرّ الحديث عن فضائل الجمع بين السلطتين المدنيّة والدينيّة.
جورج حبش هو ابن اللدّ، المدينة الفلسطينيّة العريقة الضاربة في التاريخ. اللدّ أنجبت منذ ستة عشر قرنًا قدّيسًا عظيمًا في الشهداء هو مار جرجس. مار جرجس قتل التنّين، رمز الشرّ المطلق. وبدوره حارب جورج حبش، كابن مدينته، التنين الذي طرده وأبناء جلدته من ديارهم المقدّسة، ليس لأنّ المسيح سار عليها وليس لوجود المسجد الأقصى فيها، بل بكلّ بساطة لحقّ الفلسطينيّين بأرضهم وبيوتهم وبيّاراتهم. لم يبحث جورج حبش عن عذر دينيّ أو شرعيّ، بالمعنى الدينيّ، ليقاتل إسرائيل الباغية، بل اتّخذ شرعيّة قتاله من آلام شعبه.
التنين ما زال حيًّا ويزداد انتعاشًا. عاد لا يملك رأسًا واحدًا. رؤوسه تزداد عددًا، الصهيونيّة والطائفيّة والتشدّد الدينيّ والتخلّف العلميّ… نهضة الإنسان العربيّ، التي حلم بها جيل جورج حبش، تعني صرع التنين وقطع رؤوسه. بعدها يبدأ الكلام.
جريدة “النهار” 3 شباط 2008