العبادة لله وحده لا للأديان

الأب جورج مسّوح Sunday July 6, 2008 200

يجمع أهل الأديان، بعامّة، على القول بأنّ الأديان إنّما جُعلت لخدمة الإنسان، لا الإنسان لخدمة الأديان. فالإنسان هو قمّة الخلق وأكرم المخلوقات، فالله خلقه “على صورته ومثاله”، وجعله “خليفةً في الأرض”، وسلّمه المسكونة أمانةً. ولا ننسى أيضًا أنّ وجود الإنسان سابق بملايين السنين لوجود الأديان. والإنسان وحده، من بين المخلوقات المرئيّة كافّة، وعده الله بالحياة الخالدة. كلّ شيء سيبيد، تقول الأديان، ولن يبقى إلاّ الله ومَن اختارهم من البشر ليحيوا بمعيّته في الفردوس أو في الملكوت.

“إنّ السبت جُعل للإنسان، وما جُعل الإنسان للسبت” قاعدةٌ جديدة أتى بها السيّد المسيح في وجه الناموسيّين والحروفيّين الذين لم يدركوا مقاصد الله الحقيقيّة من الشريعة. لذلك ذكّرهم المسيح بقول الله “إنّما أريد الرحمة لا الذبيحة”، أي بأولويّة الإنسان وضرورة خدمته أمام ممارسة الشعائر وتطبيق الشرائع. الإنسان يتقدّم على الشريعة، لا العكس. ومعروفة أيضًا القاعدة القرآنيّة “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”، والأخذ في الفقه الإسلاميّ بالحكم الأيسر في حال تساوت العلّة.

بيد أنّ وقائع التاريخ ليست بهذا البهاء الذي تبتغيه النصوص التأسيسيّة والنظريّات اللاهوتيّة أو الكلاميّة. فالتاريخ يرينا كيف انقلبت المفاهيم رأسًا على عقب، ذلك أنّ الإنسان بدل أن يكون محور الاهتمام لدى القائمين على الأديان، أضحى الإنسان أداةً طيّعة في أيدي أولي الأمر الدينيّين. وهؤلاء استغلّوا المشاعر الدينيّة لدى أتباعهم وحرّكوها، تحت ستار الذود عن الدين، لخدمة تحالفاتهم السياسيّة أو العسكريّة مع السلاطين والملوك والأمراء والولاة. هكذا أصبح الناس يموتون في سبيل الأديان لا في سبيل الله، وشتّان بين الأمرين.

الأديان التي جُعلت في الأصل لخدمة الإنسان تجعل الإنسان خادمًا لها حين تتحوّل إلى إيديولوجيّات ينبغي الدفاع عنها بأيّ ثمن. فما شهدناه من صراعات على مرّ التاريخ إلى يومنا هذا كان الدين هو المحرّك الأساسيّ والرافعة الأساسيّة التي جرت تحت شعاراته الحروب بين الأمم أو في البلد الواحد. وفي كلّ هذه الحروب تمّ سحق الإنسان باسم الأديان، فعوض أن يكون سيّدًا على الخليقة، كما شاءه الله، صار خادمًا لمؤسّسته الدينيّة برجالها وفقهائها وكهّانها والقائمين على أمورها. صار الإنسان عبدًا لشيخه ولمعلمه كالمريد الذي لا مشيئة خاصّة له، كالخاتم في إصبع مرشده. أمسى الإنسان الوسيلة عوض أن يكون الهدف. صار موت الإنسان في سبيل الدين هو الهدف، وبطل أن يكون الهدف هو الحياة في سبيل الإنسان.

أمّا حالنا، نحن اللبنانيّين، فلا يختلف عن هذا الوصف. يستثار الإنسان على مرّ الساعة من أجل الذود عن حياض الطائفة أو المذهب، و”يا غيرة الدين” وما شابه من نداءات. مجد الطائفة أو عزّة المذهب يستأهلان التضحية بالحياة في سبيلهما. وبدل أن يكون الله هو موضوع العبادة والسجود، يأخذ المذهب مكان الله. ليس الشرك أن يتّخذ الإنسان إلهًا آخر سوى الله فحسب، بل الشرك أيضًا أن يصبح المذهب أو المعتقد موضوعًا للعبادة إلى جانب الله. لقد خلق الله الإنسان حرًّا، أمّا الإنسان فيستعبد نفسه بمشيئته لمذهبه ومعتقداته.

الإنسان في حالة إشراك، في حالة عبوديّة لن ينقذه منها سوى إعادة الاعتبار إلى العقل الذي تمتدحه النصوص الدينيّة كافّة. فعوض العقل يعمّ الجهل والتحليق في الغيبيّات، وعوض صنع المستقبل تسود العودة إلى الماضي السحيق واستحضار النزاعات. وإذا بقي الخطاب الدينيّ، كما هو اليوم، تحريضيًّا واستنهاضيًّا في سبيل رفعة شأن الأديان أو المذاهب فسيفقد الإنسان أكثر فأكثر من إنسانيّته التي خلقه الله عليها. ولن يكون من معنًى حقيقيّ للأديان إذا لم يتحرّر الإنسان من عبادتها، وردّ العبادة لله وحده الذي لا شريك له.

 

جريدة “النهار” 6 تموز 2008

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share