“نحن دعاة سلام” عبارة تتردّد على ألسنة قادة دينيّين. هي عبارة صحيحة ولها أسسها الراسخة في النصوص الدينيّة وفي سير الأبرار والقدّيسين. لكنّها أحيانا قد تثير الريبة حين تأتي في سياق ملتبس، ولا سيّما حين يتعلّق الأمر بالسلام مع الدولة الإسرائيليّة. “نحن دعاة سلام”، نعم. ولكن هل من سلام بين الذئب والحمل، إن لم يتمّ نزع مخالب الذئب أوّلاً، أو تسليح الحمل بترس وقائيّ يصدّ هجمات الطامع بلحمه وعظامه؟
“لا سلام للأشرار، يقول الربّ”، يؤكّد النبيّ إشعياء (48، 22). فالسلام هو الخير بالتعارض مع ما هو شرّ، والنبيّ داود يوصي في مزاميره: “جانب الشرّ، واصنع الخير، وابتغِ السلام، واسعَ إليه” (34، 15). لقد فهم الأنبياء أنّ من المستحيل أن يجتمع تحت سقف واحد الخير والشرّ معًا، وبخاصّة أنّ الواحد نقيض الآخر كلّيًّا. وبناءً على التراث الكتابيّ يقول القدّيس يوحنّا الدمشقيّ: “إنّ الشرّ إنْ هو إلاّ فقدان الخير وبعاد عمّا هو بمقتضى الطبيعة إلى ما هو ضدّ الطبيعة”. لذلك يرى يوحنّا أنّ “الشرّ لا يستطيع المسالمة، إذ لا يلائم الشرّ أن يكون سلام”.
ليس السلام في الكتاب المقدّس مجرّد ميثاق بين المتحاربين يتيح حياة هادئة، وليس هو “زمن صلح” مقابل “زمن حرب”، وليس السلام “غياب الحرب”، إنّما السلام يدلّ على وضع الإنسان الذي يحيا في وئام مع الطبيعة، مع نفسه، مع جاره، ومع الله. هو “غياب الظلم وتسلّط الإنسان على الإنسان”. لذلك يترافق لفظ السلام في العهد الجديد دائمًا مع تعابير المحبّة والرحمة والحياة والشفاء والصحّة والبرّ والخير والسعادة والطمأنينة والأمان والفرح والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان والوداعة والعفاف.
السلام، إذًا، ليس فقط انعدام القتال مع عدوّ خارجيّ، بل يعني أيضًا انعدام الظلم الاجتماعيّ الذي يسحق الفقراء والمعوزين. فليس يحيا بسلام، مثلاً، مَن لا يستطيع أن يؤمّن حاجيّات عائلته اليوميّة. وهذا بالضبط ما عناه كاتب المزامير حين أنشد رابطًا بين السلام والعدل: “فيحكم لشعبك بالبرّ ولبائسيك بالإنصاف. تثمر الجبال سلامًا للشعب، والتلال برًّا. لأنّه ينقذ المسكين المستغيث والبائس الذي لا ناصر له” (72، 2 و12). وأتى القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو في القرن الرابع ليضيف المحبّة إلى العدل والسلام، فقال: “إنّ مَن لا يصدّ الظلم الذي يهدّد أخاه، في حين أنّه قادر على ذلك، لا يقلّ ذنبًا عن الذي يقترف الظلم”.
هل السلام، بالنسبة إلى الفلسطينيّ المقتلع من أرضه ودياره، هو استرجاع سيناء والجولان وجزءًا من الضفّة الغربيّة ومزارع شبعا؟ هل يعني السلام بقاء الفلسطينيّ مشرّدًا في الدول العربيّة يحيا في ظلّ قوانين جائرة بحقّه كإنسان مساو لمواطني هذه الدول؟ هل يكفي توقيع معاهدات سلام بين الأنظمة العربيّة القائمة وحكّام إسرائيل للقول بأنّ السلام قد استتبّ؟
إذا استلهمنا التراث المسيحيّ نستطيع موافقة النبيّ إرمياء حين وصف الأنبياء الكذبة قائلاً: “يقولون سلام، سلام، وليس سلام” (6، 14). كثر هم الأنبياء الكذبة الذين يتوافدون على هذه البلاد يحملون بشائر السلام والديمقراطيّة وحقوق الإنسان وسواها من الشعارات الكبرى. ونحن، تلاميذ يسوع المسيح، لا يسعنا إلاّ العمل بموجب قوله: “طوبى للساعين إلى السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعون” (متّى 5، 9). ولكن أيّ سلام لا يبدو قابلاً للحياة مع استمرار الاعتداءات الإسرائيليّة والنيّة باستمرارها، ومع الظلم والقهر اللذين يلازمان يوميّات الفلسطينيّين المقيمين واللاجئين. نحن في حاجة إلى توبة إسرائيليّة حقيقيّة كي نصدّق أنّ للسلام حظوظًا واقعيّة. ينبغي أوّلاً إبادة الشرّ.
جريدة “النهار” 13 تموز 2008