انتقل الى حنان الله الأسبوع الماضي مطران عكار الأرثوذكسي بولس بن اسكندر بندلي وأحسسنا ان النور الإلهي كان مرتسمًا على وجهه. أعرف الرجل منذ يفاعه متربّيا على أم بارة وفهيمة ومجاهدة، أخا لثلاثة أطباء ولدكتور في الفلسفة وهو مجاز في الفيزياء وكان مدير المدرسة الأرثوذكسية في ميناء طرابلس وملتزما شأن الرب ومخافته في حركة تجدد روحي هي حركة الشبيبة الأرثوذكسية. هذا كان إطاره في علمانيته ثم جُعل كاهنًا في بشمزين الكورة اثنتين وعشرين سنة ومبشّرًا جوالا في قرى الشمال الى انتخابه مطرانا على أبرشية عكار الأعظم امتدادا في الكرسي الإنطاكي الأرثوذكسي. أن تكون مطرانا ليس ان تكون بالدرجة الأولى إداريا ولكن أن تكون أبا روحيا لكثيرين. وهذا ما كانه على خير وجه. وعلى عمق روحانيّته بنى في الحجر ما استطاعه.غير أن اللافت فيه هو أخلاقه التي عزّ مثيلها. فقد كان هادئًا، كامل الهدوء لم يُسمع له صراخ في مجالسته الكهنة وغيرهم من الناس. وكلمة الله تخرج من فمه حلوة، دسمة في مواعظه وكتاباته وتعليمه اللاهوتي في البلمند. وهذا الهدوء لم يحل دون صلابته وتمسّكه بما كان يعتقده رأيا سليمًا. سره في هذا انه كان يشتهي الا يجرح احدًا ولا يصدم أحدًا مجانا. كانت سلطته في هيبته، في السلطان الإلهي الذي لم يحد عنه يوما والناس يتوقعون من الأسقف كلمة الله لا كلمات شهواته.
حاد عن السياسة كليا ولو اضطر أبويا الى أن يحضر هذا المهرجان او ذاك. وأنا ما كنت أعرف ان له فكرًا سياسيا واضحًا ولم أكلّمه في هذا الأمر لأني كنت أسعى الى تلك الكلمات التي كانت تصدر عنه لتربينا جميعا. لم يكن توجيه أبناء أبرشيّته سهلا بين يديه لأن التوجيه يتطلّب حوارًا حقيقيا بين المعلّم والمتعلّم اذ تكون بينهما لغة واحدة. هو كان الإنجيل مرجعيّته أي تعود اليه اذا تكلّمت وتفترض أن مكلّمك يعود اليه والذين يستلهمون حكمة الله ليسوا دائما مسلّمين بحكمة هذا العالم. وهاتان حكمتان تتصادمان في معظم الأحوال. ابن هذا الدهر يعتزل ابن الدهر الآتي لأن ابن هذا الدهر لا يريد ان تداخله حكمة الله اذ هو مرتاح الى المنافع التي يجنيها في هذه الدنيا التي هي مجال سلطانه. كل التاريخ مجال صدام بين الخير الذي تحمله قلّة والشر الذي يحمله الأكثرون وليس من لقاء الا بهذا الشيء النادر الذي يسميه الكتاب التوبة.
بهذا كان المطران بولس انجيليًا خالصًا يغتذي من الكتاب ببساطة ليحيا. ثم يوزّع كلمات هذا الإنجيل على العارفين والبسطاء فيصل الى القلوب المتعطّشة الى الله. غير ان الكثيرين الذين لم يقرأوا شيئا قالوا لنا انهم يعيشون من سلوكه اذ كان يجود على الجميع باحترام كامل أكبارًا في القوم كانوا أم موظفين عنده. لهم جميعًا توقير واحد ووداعة واحدة يسكب المسيح فيها على القوم جميعا.
والوداعة من أصعب الفضائل. تلتبس عند بعض مع الضعف حتى يروا فضيلة التواضع التي على خفرها تنكشف للجميع. والوداعة والتواضع اجتمعا في هذا الإنسان النادر. ولو طلب التواضع الإمّحاء الا انه يرفع الإنسان أمام وجه الله ووجوه الصالحين في هذا الوجود. والسر في المتواضع انه لا يعرف نفسه هكذا لأنه لا يزن نفسه بميزان ويدع الدينونة لله ويضع نفسه حتى في هذا العالم تحت الدينونة ولا يستطيع ان يرى نفسه شيئا اذ لا ينظر الى نفسه ولا يتمتّع الا بالنعمة اذا نزلت عليه ووعاها. وعندنا نحن الأرثوذكسيين انه يجب عليك ان تعي النعمة وان تشكر. المؤمن عيناه الى المقامات الإلهية التي منها يأتي عونه فهو أبدًا مخطوف وينزل الى الدنيا اذا أرسلته اليها النعمة. الأبرار عالم بحد نفسه له فهم خاص وقانون خاص ومن كان عن كل هذا غافلا لا يرى أعماق الأشياء لا في دينه ولا في دنياه..
كان المطران بولس فقيرًا حتى العدم لأنه قرأ عند آبائنا ان مال الكنيسة ليس له لكنه المؤتمن عليه فقط وانه حكما للمحتاجين ولم يكن له دخل شخصي ولا يتقاضى راتبًا ولا يأخذ هدية شخصية من المال وكل ما كان يُتبرع له كان يضعه في مؤسساته التربوية أو الاستشفائية.
لا يكل ولا يتعب. يلبي كل حاجات المؤمنين على صعيد الأسرار المقدسة وهذا يتطلّب منه أحيانا كثيرة ان يعبر الحدود السورية اللبنانية غير مرة في اليوم ليقوم بالخدمات الروحية المطلوبة منه حتى لا يصدّ أحدًا ولا يُحزِن أحدًا. وكان يرحل من مطرانيّته أحيانًا كثيرة في تعزية يمكن إرجاؤها وذلك بسبب من الأبوة التي كان يحسّ بها لتبيان الود الذي ينفع دائما. من هنا وفي الموازنة بين طاقاته أقول انه كان بالدرجة الأولى رجل قلب والقلوب تأخذ بعضها من بعض والمشكلة أن عامة الناس يريدون ان يكون رئيس الكهنة قويا في الدولة، لصيقًا بالنافذين أي ان يكون في خدمة دنيوياته وغالبا ما لا ينتظرون منه الانسحاق لأن الانسحاق يناقضه الجبروت. ومن المعروف ان الجماعة الروحية القليلة العدد في البلد يعتم عليها وعلى أبنائها لأن الدولة دولة العدد. والأعزل او الفقير لا يفرض نفسه على ذوي المقامات ولو فرض نفسه على النفوس العطشى الى البرّ.
.الكبار الكبار لا يخلفهم أحد لأنهم يقيمون في النفوس أجيالا تتوالى. لذلك لا ندفن الأسقف اليوم جالسا على كرسي كما في السابق. نمحوه في تابوت عادي. وعند اقترابنا من القبر ننزع عن رأسه التاج لأن الله بات وحده تاجه. ونضع على وجهه ستر القرابين بسبب تلك المحبة التي تجعلنا نشعر انه أمسى قربانا لله.
دُفن المطران بولس في كنيسة صغيرة إزاء دار المطرانية بعد أن قبّل الكثيرون يده وتبرّكوا هكذا بجثمانه الطاهر وهنا لا بد من أن أودع قارئي برواية حادثة سيارة كنا فيها معا. كنت تركت سيارتي في باحة المطرانية لنذهب معا الى صافيتا ونقيم قداسا وجنازا لأحد الأصدقاء. وعند عودتنا الى دارته أردت ان أعود بسيارتي الى بيتي في برمانا وأن اودّعه عند منزله. فأصرّ من اجل تهذيب فائق أن يرافقني الى طرابلس في سيّارته وعند اقترابنا من المنية في قضاء طرابلس عارضتنا شاحنة مخالفة الاتجاه وقد تضرّر هو من هذا الاصطدام كثيرا وأُجريت له غير عملية جراحية. لماذا كل هذا الود الذي كنت أعتقد انه لا فائدة من إظهاره؟ لماذا كل هذا اللطف او هذا الذوبان في اللطف الذي كنت أعرفه فيه. الروحانيون الكبار عندهم منطق خاص بهم.
وبعد أن ودّعناه قال الكثيرون هنا وفي الخارج ان لنا اليوم قديسا يشفع في هذه الكنيسة التي تبقى حاجتها الكبرى القداسة.