هل من الطبيعي أن يخاف المسيحي من الموت؟

mjoa Saturday August 30, 2008 213

 

أولاً : أسس الاعتقاد بأنه يُفرض بالمسيحي أن يكون بمأمن من مخافة الموت
قد يكون هذا الاعتقاد شائعاً بين الناس، كما يبدو مما يعبّرون عنه من استغراب حين يبدي إنسان ما، مشهود له بالإيمان، جزعاً حيال الموت، موته الشخصي أو موت شخص عزيز عليه. أما أسس هذا الاعتقاد، فأرى أنها كامنة في مفهوم للإيمان المسيحي يمكن تلخيصه بما يلي:
1 – اعتقاد بازدواجية الكيان الإنساني، بحيث يتكوّن الإنسان بموجب هذا المعتقد من “نفس” هي جوهر كيانه ومن “جسد” ليس سوى غلاف ترابيّ مؤقت لهذه النفس. فالموت، والحالة هذه، لا يتعدى كونه زوال “الغلاف” الجسديّ فيما تستمر النفس (وهي العنصر المهم الوحيد في الإنسان) أبدياً في حياتها.
2 – اعتقاد، مستنتج مما سبق، بأن الحياة الأرضية ليست سوى حقبة عابرة في سياق وجود لامتناهٍ، وأنها بالتالي غير جديرة بأن تؤخذ على محمل الجدّ (إلا من حيث هي مدخل إلى الآخرة) لأن امتدادها الزمني المحدود لا يُحسب له حساب إذا قيس بلانهائية الأبدية.

.

 

ثانياً : خطأ هذه الأسس ومخاطرها:
هذا ولا بدّ من التأكيد أن هذه الاعتبارات، على شيوعها، لا تثبت إذا جوبهت بالرؤية الإيمانية الأصيلة، كما أنها تشكّل خطراً يهدد سلامة الإيمان والحياة معاً.
1 – خطأ هذه الأسس
هذه الأسس باطلة لأنها تفترض ازدواجية في الكيان الإنساني تناقض فكر الكتاب والخبرة الإنسانية بآن معاً. ذلك أن كلاً من هذا الفكر وهذه الخبرة يؤكد على وحدانية الكيان الإنساني ببعديه النفسي والجسدي. فالجسد في منظورهما ليس مجرد غلاف إنما هو جزء لا يتجزأ من الكيان الإنساني الحيّ، بحيث أن المرء يعيش كل خبرة من خبرات حياته، من أدناها إلى أسماها، بهذا الكيان الموحّد وما يتضمن من بعد نفسيّ وبعد جسديّ، كما أنه يذوق الموت بكلية كيانه أيضاً بحيث يزول بفعل الموت كل النمط الأرضيّ لوجوده، بمظهريه النفسيّ والجسديّ.
2 – خطر هذه الأسس
ثم أن هذه الأسس خطرة لأنها تسيء بآن معاً إلى حقيقة الآخرة والى حقيقة الحياة الحاضرة، مشوِّهة هذه وتلك:
أ – فهي تسيء إلى حقيقة الآخرة، لأنها تتصورها امتداداً لانهائياً ومجمّلاً للحياة الحاضرة ، فتغفل بالتالي الاختلاف الكلّي والجدّة الجذرية اللذين تتميز بهما الآخرة، مسقطة عليها صور الحياة الحاضرة ورغباتها. إن الصدّوقيين، حين نصبوا للمسيح فخاً بسؤالهم الشهير عن المرأة التي تزوجت سبعة رجال على التوالي ثم ماتت، طالبين منه أن يوضح لهم لمن تكون زوجة في القيامة، أثبتوا أنهم لم يميزوا بين الآخرة، التي كانوا منكرين لها، وبين الصورة الكاريكاتورية عنها التي نحن بصددها. لذا واجههم المعلم بقوله: “ضللتم لأنكم لم تعرفوا الكتب ولا قوة الله” (راجع لوقا 20: 27 – 40).
ب – ولكنها تسيء أيضاً إلى حقيقة الحياة الحاضرة، لأنها تستهين بها وتتجاهل أهميتها، معتبرة إياها مجرد توطئة غير ذي بال، وفي آخر المطاف ضربًا من الوهم، مما يحول بين الإنسان وبين أخذ عطايا الله الأرضية له على محمل الجدّ وإعطائها كل حقها وتناولها بشكر عميق. كما أنه يعرّضه – وهذا أدهى – إلى الاستهانة بآلام الغير على أنها عابرة، والى التهاون في مكافحة أسبابها، والسكوت عن هذه الأسباب، ودعوة الناس إلى الرضوخ للأوضاع الراهنة البائسة التي يعيشونها، على أنها لا شيء إذا قيست بما سوف يناله المرء من تعويض عنها في الآخرة.
من هنا الاعتراض المحق الذي يبديه المحلّل النفسي غير المؤمن، جيرار منديل، على ما ينسبه خطأ للإيمان المسيحي (لأنه قد يكون، للأسف، شائعاً بين المسيحيين)، بأنه اعتقاد “بأن الموت وهم”، إذ يقول: “وهل تكون الحياة البشرية شيئاً آخر سوى مظهر حياة خدّاع، إذا انتزعت منها خلفية الموت؟”  .
 من هنا أيضاً هذا الموقف الذي شاع فيما مضى لدى الواعظين والذي يثور عليه بحق أحد أشخاص رواية شتاينبك “عناقيد الغضب”، إذ يقول:
” لقد فكّرت (…) أن كل العظات تقريباً تدور حول الفقراء والفقر. إذا كنتم لا تملكون شيئاً، فما عليكم إلا أن تضموا يديكم وأن لا تهتموا بما عدا ذلك؛ فعندما تموتون، سوف تأكلون طيوراً فاخرة في صحون من ذهب …” .
 ومن هذا الباب أيضاً، ما يذكره المؤرخ المسيحي المعاصر الكبير جان دوليمو، من سكوت السلطات الدينية عن تجارة الرقيق، هذا السكوت المستند جزئياً إلى منطق بغيض، اعتُبر طيلة أجيال على انه من المسلّمات البديهية، ألا وهو أن هؤلاء الزنوج كانوا، لقاء حياة الشقاء التي يقضونها، يدخلون إلى عالم المسيحية مما يؤهلهم إلى نيل الفرح الأبديّ بعد موتهم .

ثالثاً : خطأ التصور الذي يفترض أن المسيحي بمأمن من الخوف من الموت
وبغض النظر عن خطأ الأسس التي يستند إليها الاعتقاد بأن المسيحي بمأمن من الخوف من الموت، فليس في الخبرة المسيحية من مبرر لهذا الاعتقاد:
1 – فالإيمان لا ينتزع الإنسان من مأساة وضعه ووجوده، تلك المأساة التي تبلغ بالموت ذروتها. ذلك أن الإيمان، وإن كان يجعل بين الله والإنسان علاقة وألفة، إلا أنه لا يلغي بالكلية غربة الإنسان. ذلك أن الإيمان يختلف عن الرؤية: “أما وجهي، يقول الله لموسى، فلا تستطيع أن تراه لأنه لا يراني إنسان ويعيش” (خروج 33: 20) . لذا يقول الرسول بولس: “فنحن اليوم نرى في مرآة رؤية ملتبسة، وأما يومذاك فتكون رؤيتنا وجهاً لوجه…” (1 كو 13: 12)؛ وأيضاً: “عالمين أننا، ما دمنا مقيمين في هذا الجسد، نظل في دار غربة عن الرب، لأننا نهتدي بالإيمان لا بالعيان…” (2 كو 5: 1-7).
2 – لا بل أن الإيمان، بمعنى من المعاني، يجعل الإنسان أكثر تحسساً لمأساة الوجود. إذ لا بدّ أن يؤمن المرء، إلى أبعد حدّ، بالحياة والفرح، إذا آمن بالله الذي هو حياة كله وفرح كله وينبوع دائم التدفق للحياة والفرح. لذا فالمؤمن، من حيث هو ابن للنور، شديد الحساسية لكل ما يشاهده ويختبره من ظلمات في الأرض. إنه، من حيث انتمائه إلى إله الحياة والفرح، مرهف الحساسية لكل ما يراه مناقضاً لذلك الإله في الوضع الترابيّ الراهن الذي يعيشه، أي لكل بؤس وشقاء وموت. وبما أنه اتخذ ملكوت الله، أي ملكوت الحياة الظافرة، موطناً له، فإنه، من جراء ذلك، أكثر إحساساً من سواه – أو هكذا يُفرض على الأقل – بعناصر غربته عن هذا الوطن، وهي عناصر تتلخص وتتبلور في الموت، ذلك الموت الذي هو، بظاهره، ذروة الفشل واللامعنى.
في مقابلة أجراها معه كريستيان شابانيس، يوضح رئيس أساقفة باريس الكاثوليكي، جان ماري لوستيجر، أنه أهون على غير المؤمن أن يرضخ للأمر الواقع فيقبل بفنائية الإنسان كتعبير عن محدوديته، وأن هذا الموقف لا يخلو من نبل لأن فيه حكمة وإتضاعاً. “أما الذي يكتشف أن الله حياة وينبوع حياة، فعثرة الموت أعظم في عينيه. بمقدار ما يذوق الإنسان عظمة الحياة الممنوحة من الله، بهذا المقدار تبدو له عثرة الموت هائلة…” .
3 – ثم إن الموت، بنظر المؤمن، ليس مجرد انقطاع العلاقات التي تربطه بالأرض وبالناس، إنما هو أفدح وأدهى من ذلك، لأنه، بمعنى من المعاني، انقطاع لعلاقته بالله، تلك العلاقة التي يجد فيها كمؤمن قلب وجوده ومحور هذا الوجود ومبرّره. ذلك أن الموت يشكّل انقطاعاً لتلك العلاقة من حيث النمط الذي تتخذه في الوجود الأرضيّ، وهو النمط الوحيد الذي تعرّف إليه المؤمن واختبره وألِفه، ولم يألف سواه لا بل لا يسعه حتى أن يتصور سواه. يقول المفكر المسيحي اينياس ليبّ:
” لا تكاد توجد لدينا أية وسيلة لنعرف بالتأكيد مما تتكون بالضبط هذه الحياة الأخرى التي نحن سائرون إليها (…) إن الكتب الموحاة متكتمة إلى أقصى حدّ حول هذا الموضوع (…) صحيح أنه يحق لنا أن نرجو أن الحياة الأبدية ستحقق ملء أمانينا، إنما كيف وبماذا، فهذا ما نكاد نجهله بالكلية” .

 هذا ما عبّر عنه الروائي المسيحي الفرنسي الكبير فرنسوا مورياك في بعض مذكراته، عندما كتب:
” أعترف أن الأمر يختلف بين الإيمان بالحياة الأبدية وبين تصوّرها. إنه لا يسعني أن أتخيل، أن أتصور ما أعتقده لأنه يتخطى المفاهيم البشرية”.
 وقد أضاف في موضع آخر:
” الموت لن يعني بالنسبة إلينا مغادرة الأرض وحسب، إنما أيضاً مغادرة السماء كما حظينا بها في الجسد، ولو كان ذلك في ذلّ الخطيئة ودموعها” .
4 – مثال يسوع:
إن ما سبق يتأكد لنا إذا تأملنا في موقف يسوع – وهو المثال الأعلى للمسيحي – حيال موته الشخصيّ، وهو موقف يزداد وضوحاً إذا أجرينا مقارنة بينه وبين سقراط في وضع مماثل. وقد أجرى هذه المقارنة العالم الكتابيّ السويسري الكبير أوسكار كولمان ، واستشهد بتحليله هذا اللاهوتي الكاثوليكي الإسباني ج. م. غونزاليز – رويز في كتابه “الإيمان بعد ماركس” .
سقراط يواجه الموت بصفاء كلّي. إنه لا يخشاه بل يرى فيه الصديق الحنون، لأنه يعتقد أن فعل الموت يقتصر على تحرير نفسه من سجنها الترابيّ. أما يسوع فانه يبدي رهبة حيال الموت لم يخفها عنا الإنجيليون. ليس في هذه الرهبة أثر للجبن. فيسوع يتجه إلى أورشليم بخطى ثابتة وهو عالم بالمصير الذي ينتظره فيها:
• “وكانوا في الطريق صاعدين إلى أورشليم، وكان يسوع يتقدمهم، وكانوا هم منذهلين، والذين يتبعون خائفين. وعاد فاعتزل بالإثني عشر، وطفق يقول لهم ما سيجري له: “ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن البشر سيسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت…” (مرقس 10: 32 – 33).
• ” وفي تلك الساعة تقدم إليه نفر من الفريسيين، وقالوا له: “إنطلق! اذهب من ههنا، فإن هيرودوس يريد أن يقتلك”. فقال لهم: “اذهبوا، وقولوا لهذا الثعلب: ها أناذا أطرد الشياطين، وأجري الأشفية، اليوم وغداً؛ وفي اليوم الثالث ينقضي أجلي! ولكن، لا بدّ من أن أواصل الســير اليـوم وغـداً ومـا بعـده؛ إذ لا يليــق أن يهلك نبي خارج أورشليم!…” (لوقا 13: 31-32).
يسوع يواجه إذاً الموت بتصميم كامل تتميماً لرسالته ومحبةً للآب والناس، ولكنه يستفظع الموت لأسباب تتعدى بكثير مجرد غزيرة البقاء. فالموت بالنسبة له (كما بالنسبة لكل التراث اليهودي الذي كان يحمله) انقطاع عن الله، سيد الحياة ومصدرها:
• “… مثل القتلى الذين في القبور يرقدون الذين لا تذكرهم من بعد وهم عن يدك مُقصون”.
(مزمور 87: 5)
• “… أيخبر أحد في القبر برحمتك؟ وفي مكان الهلاك بأمانتك؟ أتُعرف في الظلمة عجائبك؟ وفي الأرض المنسية عدالتك؟”
(مزمور 87: 11و 12)
 فالموت، بالنسبة للتراث اليهودي، وليسوع المغتذي من هذا التراث، عدوّ الله، إنه “العدوّ الأخير” (1كو 15: 26). وبالتالي، فقد كان من الطبيعي أن يعاني يسوع من جراء وقوعه بين براثنه أكثر من أي شخص آخر، بسبب العلاقة، الفريدة في عمقها ووثاقتها، القائمة بينه وبين الآب (“قد أولاني أبي كل شيء، فما من أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا من أحد يعرف الآب إلا الابن ومن شاء الابن أن يكشف له”، متى 11: 27). لقد كان الموت غريباً عن يسوع كل الغرابة بسبب الإلفة التي لا مثيل لها القائمة بينه وبين سيد الحياة (“أنا والآب واحداً”، يوحنا 10: 30)، لذا كان من الطبيعي أن تبلغ معاناته من الموت ذروتها. من هنا الكآبة التي استحوذت عليه قبل تسليمه في بستان الجسمانية:
• “ثم مضى ببطرس ويعقوب ويوحنا، وجعل يستشعر رهبة وكآبة. فقال لهم: “نفسي حزينة حتى الموت…”
(مرقس 14: 33 و34)
 من هنا صيحته المأساوية على الصليب عندما هتف بعبارة المزامير:
• “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟”
(مزمور 21: 1 و مرقس 15: 34)
 إلا أنه، في تلك اللحظة التي اكتنفت فيها كيانه ظلمة دامسة أطبقت على جسده النازف المختنق ونفسه المسحوقة تحت وطأة الظلم والكراهية والنبذ والفشل والعزلة، في تلك اللحظة الرهيبة التي بدا له فيها وكأن الله نفسه قد تخلّى عنه وكأن الكلمة الأخيرة بقيت للموت عدوّ الله، لبث يسوع راسخاً، رغم كل شيء، في ثقته بالآب وبتقبل الآب له، كما يظهر من ندائه الأخير الذي يرويه الإنجيلي لوقا:
• ” يا أبتاه، في يديك أجعل روحي!”
(لوقا 23: 46).
 ذلك “أن اللامعنى كان له أيضاً في نظره معنى خفيّ وأخير “. وقد جاءت القيامة تكشف هذا المعنى أمام الملأ وتعلن صحة رجاء يسوع.
5 – شهادة الرسول بولس:
كذلك نرى الرسول بولس يبيّن (ملمّحاً كما يبدو إلى خبرة شخصية) كيف أن الإيمان بالقيامة لا يلغي جزع الموت، وكيف أن المسيحي يتمنى لو أنه يستطيع أن يبلغ القيامة دون المرور بمعاناة الموت:
• “ونحن نعلم أنه إذا هُدم بيتنا الأرضي، وهو أشبه بالخيمة، فلنا في السموات بيت من بناء الله لم تُشِدْه الأيدي، وإنا نئنّ حنيناً إلى لبس هذا المسكن السماويّ فوق ما نحن عليه، إذا قُدّر لنا أن نكون لابسين لا عراة. ولذلك نئنّ مثقلين ما دمنا في هذه الخيمة، لأنا لا نريد أن نخلع ما نلبس، بل نريد أن نلبس ذاك فوق هذا …”
(2 كو 5: 1 – 4)

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share