في الحفلة الخطابية بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لتأسيس الحركة خاطب أحد المتكلمين الحضور قائلاً: “أيها الإخوة الأرثوذكسيون”. فما كان من طالب كاثوليكي حزبي حضر الحفلة إلا كتابة نقد في ملحق النهار الأسبوعي يتهم فيه الحركة بالإنغلاق والتعصب وإلهاء الشباب عن مشاكل مجتمعهم، فرد عليه الأخ الياس خوري ردًّا موضوعيًا مستقى من فهمه للمسيحية كما علّمته إياه الحركة، واستشهد على انفتاح الحركة بمواقف قادتها.
إلا أن الطالب لم يَرُقْ له ذلك وألبس الحركة لباسًا ليس لها وتهجم على الدين من خلالها. فما كان من الاخ كوستي بندلي إلا أن أرسل رده هذا إلى ملحق النهار فنشر يوم الاحد 28 آب 1966 العدد 9428 وهذا نصه:
المجتمع والقيَم
تقول “إن المجتمع هو مصدر القيم”. ولكن إذا كان الامر هكذا، فما هو المقياس الذي بموجبه يُحكم على المجتمع نفسه؟ إذا كان المجتمع مصدر القيم فباِسم ما يدان مجتمع مبني مثلاً على التفريق العنصري أو على استغلال طبقة لطبقة؟ وباِسم ما يمكننا أن نحكم بأن مجتمعًا ما أرقى إنسانيًا وأقرب إلى الكمال من
مجتمع آخر؟ ألا يعني ذلك كله أن المجتمع، وإن كان واسطة ليكتشف الإنسان القيم، ليس مصدر القيم، لأن القيم تدين المجتمع نفسه؟
إذا كان الله استُغل كما أبديت (وأضيف أنه لا يزال يستغل)، فذلك يعود إلى كون الإنسان ميالاً إلى صنع أصنام على شاكلة أهوائه يعبدها ويخلط بينها وبين الألوهة. الإله الذي استغله الحكام إنما هو صنم على صورة مطامعهم لا يمت إلى الإله الحقيقي بصلة، وإن اتخذ اسمه. ذلك الإله الحقيقي لا نعرفه من خلال تصوراتنا “لأن أفكاري ليست كأفكاركم يقول الرب” (أشعيا). ولكنه كشف لنا عن ذاته فعرفناه من خلال يسوع المسيح لا إلهًا جوبيتريًا يُسرّ بإذلالنا واستعبادنا ولكن حبًا مبذولاً وعطاء لا حد له يبث حياته كلها وقواه كلها فينا لنحيا ونتأله.
صنمية الامة
“الإله الدركي” الذي تتحدث عنه صنم لا يسع المسيحي إلا أن يكفر به. ولكنه ليس الصنم الوحيد. فالإنسان صنع ولا يزال يصنع أصنامًا عديدة من خلالها يتعبد لذاته. ألا تصبح “الأمة” مثلاً صنمًا إذا اعتبرنا أن “الولاء الأول والأخير” يجب أن يكون لها على حد تعبيرك؟ قد يكون الدين مدعاة للتباغض. وهذا ليس من جوهره. ولكن من يجهل أن صنمية الأمة مزقت البشرية مدى التاريخ شر تمزيق وأن عددًا لا يحصى من الضحايا قدم على مذابح هذا الصنم الرهيب؟ لم ينسَ أحد بعد أن النازية، عندما اعتبرت الأمة مصدرًا مطلقًا للقيم، صارت سببًا لحرب هائلة ولّدت الشقاء والدمار وذهب ضحيتها ما يقارب السبعين مليونًا من البشر. تلك الفظائع التي ارتكبت في معسكرات الاعتقال النازية حيث اغتيل ستة وعشرون مليونًا من الناس ألم يحاول الذين ارتكبوها تبرير أنفسهم بقولهم إن “الولاء الأوّل والأخير يجب أن يكون للأمة والوطن”؟ كل ذلك إن دل على شيء إنما يدل
على أن الوطن قيمة هامة ولكنه ليس القيمة المطلقة. المصدر المطلق للقيم ليس المجتمع او الأمة أو الوطن، إنما هو الله وحده الذي يدين المجتمعات والأمم والأوطان.
ستأتي ساعة
أما التناقض الذي تقيمه بين “الحياة الثانية” و”الحياة في هذه الدنيا” فليس له أساس في المسيحية. ما سيأتي هو حاضر منذ الآن: “ستأتي ساعة وهي الآن حاضرة …”. إننا منذ الآن في الحياة الثانية، ومن جهة أخرى لا لقاء لنا بالحياة الثانية إلا من خلال هذه الحياة الحاضرة. الله موجود هنا، في واقعنا، وليس في متاهات الخيال، إنه يتجلى في الكون وفي الآخرين، “إننا به نحيا ونتحرك ونوجد”. ليس في المسيحية “ماورائيات” على حد تعبيرك إنما فيها “أعماقيات” إذا صح التعبير. “الحياة الدنيا” و”الحياة الأبدية” إنما هما صعيدان سطحي وعميق، للوجود الواحد. ليس الله “ما وراء” الوجود، إنما نلاقيه إذا قبلنا أن نتأمل في الوجود، أن نعيشه في كل عمقه. في هذه الأعماق نلتقي الملكوت لأن الملكوت، كما علّم الرب، يشبه خميرًا ألقي في العجين، في صميمه وليس على هامشه أو وراءه: “إن ملكوت الله في داخلكم”.
الإنسان يهمنا كما يهمك ولكننا نريد أن ننظر إلى الإنسان في كل أبعاده وأن لا نبتره بالنظر إليه كحيوان اجتماعي وحسب. الإنسان في نظرنا لا تكتمل إنسانيته إلا إذا تجاوز ذاته إلى من هو في آن واحد متعال عنه كل التعالي و”أقرب إليه من ذاته” (أوغسطينوس). ولذا فمن الخطأ القول إن المسيحية “لا تهتم بدار الفناء هذه”. ذلك أن “دار الفناء” هي في نظرها مكان تجلي الأبدية. لا لقاء لنا بالله، حسب تعليمها، إلا من خلال لقائنا بالناس والتزامنا قضاياهم كلها إلى أبعد الحدود: “من لا يحب أخاه الذي يراه فكيف يحب الله الذي لا يراه” (يوحنا الرسول). نعم إن المسيحية لا تعطي حلولاً مسبقة للمشاكل الآنية التي تطرح هنا وهناك، لأن الله يحترم حرية البشر ولا يسيّرهم كأطفال، ولكنها تعطينا أصل الحلول كلها لأنها تقول إن ما نفعله تجاه الانسان إنما هو موجه إلى الله نفسه، لأن الله بالتجسد وحد ذاته مع البشر وبنوع خاص مع معذبي الأرض كلهم: “كل ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه”. هذه العبارة وضعت في التاريخ البشري خميرة كل عدالة وإخاء، لقد دفعت باسيليوس ويوحنا الذهبي الفم وسط مظالم القرن الرابع إلى وضع مبادئ اجتماعية تفوق جرأتها أكثر المذاهب الاجتماعية الحديثة ثورية، لقد جعلت الرهبان في الغرب يحملون مع الإنجيل مشعل الحضارة إلى البرابرة بعد انهيار الامبراطورية الرومانية. هذه العبارة تجعل اليوم الألوف من المسيحيين يجاهدون إلى جانب غيرهم، وبوحي من إيمانهم، ضد الظلم والاستغلال والتفرقة ومن أجل الكرامة البشرية والعدالة والإخاء، ملتزمين، على حد تعبير فرانسوا مورياك، “مهمات الدنيا من أجل دوافع من فوق”.
رابط القومية
ثم أنك تؤكد أن الدين وحده لا يكفي لأن يشعر المسيحي “شعورًا داخليًا حميمًا بأن السني والشيعي والدرزي كل منهم أخ له” وأن رابط القومية وحده كفيل بأن يقيم علاقة كهذه. ولكن إسمح لي بأن أعتقد بأن إيماني المسيحي يجمعني بالذين يختلفون عني في العقيدة أعمق مما يجمعني بهم رابط القومية. فرابط القومية وإن جعل بين البشر أهدافًا مشتركة وتعاونًا وتقاربًا فإنه لا يكفي ليجمع بينهم في الأعماق. إنه يقيم بينهم قربى ولكنه لا ينتج أخوّة. ما يحدو بي إلى أن أعتبر “السني والشيعي والدرزي” إخوة لي وليس فقط مواطنين، هو بالضبط إيماني الذي يجعلني أدرك أنهم مثلي على صورة الله، ومثلي مفتدون بالدم الإلهي، ومثلي مدعوون إلى الاشتراك في الحياة الإلهية. لقد علمني يسوع أن السامري الشفوق أصبح قريبًا لليهودي الذي كان يخالفه في العقيدة، لأنه صنع معه الرحمة، وأن المحبة إذن لا تعرف الحدود. لذا فإنني أعتبر من خالفني في الإيمان أخًا ليس رغم كوني مسيحيًا بل لأنني مسيحي. في هذه الأعماق تتأصل وطنية المؤمن. إنها ترجمة لمحبته لأن المحبة تعاش أولاً مع الذين جمعنا الله بهم في المكان الواحد وفي وحدة المصير.
الحصن الحصين
أخيرًا هناك التباس في قولك بأن الكنيسة هي “الحصن الحصين للتقليد”. إذ أن التقليد بمعناه الكنسي يختلف بالكلية عن التقليد بمعناه الشائع الذي هو مرادف للجمود. التقليد في الكنيسة حياة. إنه كالينبوع دائم الاستمرار ودائم التجدد. إنه في آن واحد محافظة على الوديعة وخلق مستمر، كما قال الرب: “كل كاتب تتلمذ لملكوت السموات يشبه رجلاً رب بيت يخرج من ذخائره جددًا وقدمًا”. أما اعتقادك بأن الكنيسة “لا تستجيب لذرة من التحرر إلا بضغط من المحيط والعصر وفي محاولة منها لكي لا تفلت آخر الخيوط من يدها”، فإنما هو تفسير يمليه عليك منظارك الاجتماعي البحت الذي لا يكفي البتة لفهم جماعة هي “في العالم ولكنها ليست من العالم”. أما نحن فنعتقد أنه بالتجسد دخلت الأبدية في حوار مع التاريخ. لذلك فالكنيسة تطبع التاريخ من جهة، ومن جهة أخرى تتأثر به لتكشف على ضوء الروح القدس أبعادها كلها وتحقق غناها كله، وقد يكون التاريخ حافزًا لتعود إلى أصالتها إذا جُرّبت، وهي دائمًا مجرَّبة، بالابتعاد عنها. إنها تفتدي التاريخ ولكنها تعتبر كل ما هو خير في التاريخ منها ولها لأنه من الله وإليه، ربها ورب التاريخ.
مجلة النور، العددان 7و9، سنة 1966.