لقد صعد الرب يسوع إلى السماء ليصعدنا نحن إليها. هذا ما يعيّد له المؤمنون في يوم الصعود. أما الإلحاد المعاصر فيعتقد أن الإنسانية بصواريخها اقتحمت السماء واغتصبت مجال الله وأنها بالتالي قادرة أن تؤله ذاتها. وقد يقف بعض المؤمنين حائرين أمام هذا “التحدي”.
ولكن جوهر القضية يكمن في هذا السؤال: هل السماء التي صعد إليها يسوع هي السماء عينها التي تخترقها صواريخ البشر؟
“سماء” الصواريخ نقطة بعيدة في الفضاء. ولكن الإنسان، مهما ذهب بعيدًا في الفضاء، يبقى أسير نفسه، أسير محدوديته وأنانيته وعزلته وزواله. مهما “هرب إلى الأمام” في الفضاء الشاسع، لن يفلت من نفسه ومن الشر الكامن فيه. هل حال ارتقاء الإنسان الفضاء دون غليان المطامع والأحقاد التي تهدد العالم بحرب فنائية؟
هل أبعد كابوس الجوع الذي يئن تحت وطأته أكثر من نصف الإنسانيّة؟ هل أزال تغرّب الإنسان عن الإنسان لانهماك كل منهما في ذاته؟ هل شفى مرارة الوحدة التي تتأكل الكثيرين؟ هل منع الاستيلائية من أن تباعد حتى بين أقرب الناس؟ هل جمع شمل الأحبة الذين فرّقهم الموت؟ هل أروى عطش الإنسان إلى الخلود؟ هل أزال هذا التفاوت الدائم بين الإنسان وأعمق أمانيه؟
لن يستطيع الإنسان بقواه الخاصة أن يجتاز هذا البعد السحيق بينه وبين نفسه، بينه وبين الآخر، هذا البعد الذي يفوق بما لا يقاس الأبعاد الفضائية. وليس لأن الله حسود يحرّم على الإنسان تجاوز حدود رسمها له ليستعبده، إنما القضية قضية استحالة كيانية: فالمخلوق، لأنه مخلوق، لا يسعه أن يؤله ذاته.
ولكن الله الذي بجعله صورته في الإنسان سلّطه على الكائنات ومكّنه – رغم تشويه هذه الصورة بالخطيئة- من التغلب على ناموس الثقل (ولذلك كان الأولى أن تكون الصواريخ موضوع شكر وتسبيح)، ذلك الإله، لأجل حبه المجاني، هيأ للإنسان إنتصارًا أعظم بما لا يقاس: الانتصار على محدوديته والبلوغ إلى التألّه.
ذلك لأن “السماء” التي أصعدنا إليها يسوع- والتي لم يكن ارتفاعه في الجو سوى رمز حسي لها- تلك “السماء” هي ملء حضور الله، هي كل تأجج الحياة الإلهية، هي كل غنى الاقتدار الإلهي. إنها التحرر من حدودنا، من عزلتنا، من شرورنا، من زوالنا، بمساهمتنا في قوة الله وحبه وقداسته وخلوده.
هذا هو معنى الصعود. بيسوع أصبح الإنسان بالطاقة مستقرًا في قلب الله نفسه. ولذا فغزو الفضاء- مهما كان عجيبًا- يبدو وضيعًا إذا قوبل بهذه الالفة التي لا يتصورها عقل مع خالق الفضاء وسيده، ألفة نتمتع فيها بكل حياته وقواه وغنى لاهوته. ذلك لأن “ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه”.
“للذين يحبونه”. هذا هو صلب القضية. إن التأله، الذي لا تطاله قدرة الإنسان، يُمنح له كهبة حب. ولذا لا يمكن أن يُقتبل إلا إذا انفتح الإنسان بالحب للموهبة الممنوحة له. لقد كتب الشاعر الفرنسي “رامبو” (Rimbaud): “لقد وجدت مفتاح الفردوس القديم: المحبة هي هذا المفتاح”.
نعم إن “الملكوت يُغتصب اغتصابًا” كما قال يسوع، ولكن عنف الحب وحده قادر أن يغتصبه. إننا بالحب نقتدر على الله ذاته، لأن الله ارتضى ذلك. عندما صارع يعقوب الملاك قال له: “لن أدعك تذهب إن لم تباركني”. الله يقبل بأن ننتزع منه قدرته، إذا صح التعبير، بجرأة الحب ودالته.
الإنسان يتعبد للتقنية – هذا الصنم الحديث – لأنه من خلالها يتعبد لاقتداره الذاتي معتقدًا أنه به يُحقق ذاته. ولكن ليس من تحقيق للذات ممكن إلا في الاقتبال الحبي لعطية الله، وهذا يفترض موقف إنفتاح وعطاء.
لقد بيّن أحد الكتّاب الروحيين المعاصرين أن الخطيئة الجدية وكل خطيئة، لا تكمن في رغبة الإنسان بأن يصبح شبيهًا بالله، لأن هذا هو بالضبط تصميم الله بالنسبة للإنسان، هذا هو مبرر خلقه له، ولكن الخطيئة كائنة في تصور خاطئ للنموذج الذي يشاء الإنسان أن يتشبه به، إنها ناتجة عن خطأ في تصور الله. فالإنسان بتصوره الله إلها جشعًا، متملكًا، مكتفيًا بذاته، قابعًا في عزلته، يحاول أن يحقق ذاته بدوره في الاكتفائية والانغلاق و”النرجسية الروحية”، في عبادة ذاته. ولكن إله الإعلان مختلف بالكلية عن هذه الصورة. إنه كشف ذاته لنا على أنه محبة وعطاء وينبوع دائم التدفق. إنه عطاء منذ الأزل لأنه ثالوث ولأن كل أقنوم في الثالوث عطاء كلي للأقنومين الآخرين في “حركة حب أبدية” (القديس مكسيموس المعترف).