تخويف الناس لا بدّ منه من أجل تقوية العصبيّات على أنواعها، وهو العامل النفسيّ الأساسيّ الذي يدفعهم إلى الارتماء في أحضان التطرّف ونبذ الآخر. وليس اللبنانيّون في منأى عن هذا الاستعمال المنهجيّ على مدار الساعة، فلا ننتهي من فزّاعة حتّى تُنصب أخرى مكانها. ومن الفزّاعات التي راج الحديث عنها مؤخّرًا السلفيّة والأصوليّة الإسلاميّة ومدى خطورتها على لبنان بلد التنوّع الدينيّ والطائفيّ والمذهبيّ.
لسنا هنا لنقلّل من شأن الخطر الذي تشكّله بعض الفرق السلفيّة التي يمكن إدراجها ضمن ما بات يُعرف بالسلفيّة الجهاديّة. لكنّ السلفيّة ليست واحدة، بل هي تيّارات متعدّدة فيها مَن يرفض العنف رفضًا قاطعًا، وفيها مَن يسعى إلى الجهاد الداخليّ لتصحيح مسار الأمّة الإسلاميّة واستعادة الخلافة، وذلك بعد تكفير المجتمع، وإن كان مسلمًا، والدولة، وإن كان رئيسها مسلمًا، وكلّ أجهزة النظام القائم لأنّها لا تعمل بموجب شرع الله ولا تحكم بما أمر الله به في القرآن والسنّة.
ما يهمّنا في هذه العجالة هو كيفيّة استثمار الفزّاعات في سبيل شدّ أزر العصبيّة الطائفيّة والمذهبيّة المنغلقة على ذاتها، وتوسيع الشرخ بين اللبنانيّين حيث تنعدم الثقة ويزداد الارتياب من كلّ آخر مختلف في المذهب أو في الدين. الفزّاعة لها وظيفة واحدة هي أن تصبّ في مصلحة ماسك أمور الطائفة سياسيًّا. وهذا يصحّ أيضًا في قولنا عن السلفيّة التي تمّ استثمار الكلام عليها من أجل لمّ أبناء الطائفة الواحدة وإظهار قوّتها وبأسها.
أكثر ما يخيفنا في هذه البلاد ليست الفزّاعات الموسميّة التي تأتي على المقاس المطلوب، بل مَن يوظّفها في سبيل تعزيز سيطرته على أبناء طائفته أو مذهبه. وهذا الأمر لا يقتصر على طائفة دون أخرى. ولكلّ طائفة فزّاعتها، ولكلّ زمن فزّاعته، وقد تكون الفزّاعة حقيقيّة وقد لا تكون، هذا لا يهمّ، المهمّ أن تفعل فعلها. السوريّ، الفلسطينيّ، التوطين، سلاح المقاومة، ولاية الفقيه، الوهّابيّة، المخيّمات، الشيعيّ، السنّيّ، السلفيّ، العلويّ، الدرزيّ، المسلم، المسيحيّ، لا يهمّ الاسم الذي تتلبّسه الفزّاعة، المهمّ أن تؤدّي وظيفتها في خدمة مَن يزعم أنّه يدافع عن حقوق طائفته.
أكثر ما يخيفنا في هذه البلاد الحالة الطائفيّة التي تتمظهر في أوقات الشدّة على شكل وحدة متماسكة بين أبناء الطائفة الواحدة أو تكتّل صلب في وجه الطائفة الأخرى. ليس أمرًا يبشّر بالخير حين ترى صورةً لا يظهر فيها سوى أبناء طائفة واحدة يجتمعون للمطالبة بحقوق الطائفة أو مصلحة أبنائها. تتحوّل الطائفة إلى حزب تمييزيّ، كي لا نقول حزبًا عنصريًّا لأنّها تقوم أساسًا على عنصر الدم، يساهم في زيادة الشرخ مع الطوائف الأخرى.
لكنّنا والحقّ يقال شعب خوّيف. ولنا ملء الحقّ بأن نكون شعبًا شديد الخوف. فالخبرة الأليمة فتيّة ولم يمضِ زمن طويل عليها. والمرتكبون ما زالوا أحياء، بل أحياء أقوياء يأمرون وينهون، ولهم القول الفصل في البلاد والعباد والرقاب. وهم لا يردعهم شيء عن تكرار ما اقترفته أيديهم سابقًا، بل هم مستعدّون للمغامرة ثانية. نحن شعب خوّيف، نخاف على مستقبلنا ومستقبل أولادنا لأنّنا لن نرضى لهم ما رضيناه لأنفسنا، الخطف والقتل على الهويّة والتهجير والقصف العشوائيّ ومعابر الذلّ والحواجز والمتاريس…
الفزّاعات عابرة، ولكنّ مقوّمات خوفنا قائمة ما دامت الطائفيّة صنمًا تعبده الجماهير المحتشدة تأييدًا لحبيب الطائفة الأوحد. الفزّاعات كثيرة والخوف واحد، يخيفنا الملتحي والحليق، يخيفنا صاحب الزيّ الدينيّ وصاحب الياقة الموقّعة من أفضل دور الأزياء في العالم، تخيفنا المحجّبة والسافرة. ولن يبقى للفزّاعات دور إلاّ حين يعي أبناء بلدنا أنّ لهم الكلمة القاطعة في إبعاد كلّ مَن ارتكب جريمة في حقّهم ولا سيّما في أوان الانتخابات. وإلاّ سوف نظلّ نحيا في بلاد يسيطر عليها الخوف الدائم، بلاد الخوف المقيم.
جريدة “النهار” 14 أيلول 2008