الله والفكر البشري

mjoa Tuesday September 16, 2008 337

 

1-  ليس الله “مسألة” تبحث بالعقل المجرد:
الله موضوع إيمان: “أومن بإله واحد…”. ليس إذًا موضوع معرفة عقلية مجردة. وذلك لعدة أسباب يقبلها العقل إذا تأمل فيها موضوعياً، منها:
1- لو أمكن معرفة الله بالعقل، لكان العقل استوعب الله وحواه. ولكن المحدود لا يمكنه أن يسع غير المحدود. نقطة الماء لا يمكنها أن تستوعب البحر. العقل لا يمكنه أن يحوي الله ويحصره لأن الله مصدر العقل نفسه. يقول جان دانيالو بهذا المعنى: “ليس الله ضمن حدود الإدراك لأنه هو الذي يكوّن الإدراك”.

.

 لو كان العقل يدرك بحد ذاته الله، لكان العقل مقياس الله بينما الله هو مقياس الأشياء كلها بما فيها العقل. فكما أن العين عاجزة عن الشخوص إلى الشمس لأن نور الشمس يبهرها، هكذا العقل عاجز عن إدراك الله، بهذا المعنى قال الكتاب: “الله ساكن في النور الذي لا يدنى منه”. “العقل يحدد الأشياء التي يدركها ولكن الله فوق كل تحديد” كما يذكّرنا غريغوريوس النيصصي. من كل ذلك يتضح أن المعقول- رغم التناقض التعبيري- أن لا يدرك العقل الله، وأن الطريقة الوحيدة المعقولة للاقتراب من الله هي أن يتخلى العقل عن مركزيته، فلا يعود يعتبر ذاته مقياس كل شيء، حينئذٍ يمكنه أن يستنير بنور الله وأن يعرف الله مقياساً له وللأشياء كلها.

 

2- ومن جهة أخرى ليس الله موضوع بحث يمكنني أن أعالجه بعقلي وحسب بالاستقلال عن مواقفي الكيانية العميقة. ليس الله “مسألة” على حد تعبير غبريال مرسيل، كمسائل الجبر والهندسة مثلاً. يجدر بنا هنا أن نتوقف هنيهة لنستعرض بسرعة مفهوم المعرفة في الفكر الحديث.

لقد تجاوز الفكر الحديث ذلك التصور الوهمي الشائع الذي نعتقد بموجبه أن العقل البشري لوحة فوتوغرافية تسجل الواقع. لقد أظهرت أهم تيارات الفكر المعاصر أن المعرفة نابعة من وجود الإنسان كله. إن هذا الوجود يتفاعل مع الواقع لتكوين المعرفة. ذلك لأن الإنسان ينظر إلى الواقع من خلال اتجاهاته الكيانية، ينظر إلى الواقع من خلال ذاته. لقد بيّن ذلك، على صعيد الفيزياء النووية الحديثة، العالم الشهير هيزنبرغ وغيره (أدنغتون مثلاً). وأظهرته اختبارات عديدة قام بها  علماء النفس المعاصرون وبينوا بها أن الإدراك الحسي عينه عملية انتقائية تتأثر بميول الإنسان واهتماماته. دور المواقف الحياتية هذا في المعرفة يتضح أكثر وأكثر كلما كانت هذه المعرفة تمتّ بصلة أوثق إلى الحياة. ولنأخذ على ذلك مثلاً: إن الأدلة العلمية كلها لا تكفي لإقناع إنسان ما بأن البشر متساوون أصلاً بالامكانيات وبالكرامة، وإن تعددت أجناسهم، ذلك أن الكبرياء العنصري وشهوة التسلط قد تملي عليه، رغم كل منطق، نظرة خاطئة إلى الواقع وقد تدفعه- وقد رأينا ذلك في تاريخ ليس بالبعيد- إلى تسخير العلم نفسه لتبرير مشاعره العرقية، لا بل قد تدفعه إلى إدراك حسي مشوّه للأشياء، كما أثبت ذلك أخصائيان نفسيان هما Allport  وPostman بالاختبار الطريف الآتي: فقد أظهرا على شاشة صورة تمثل عربة مترو في ضواحي نيويورك فيها زنجي وعامل أبيض يتشاجران، والعامل الأبيض يحمل بيده اليسرى على مستوى زناره موسى حلاقة مفتوحة. كان على الأفراد الذين خضعوا للاختبار أن يرى كل منهم الصورة ثم يروي ما رآه لشخص ثانٍ وهذا بدوره لثالث وهلمّ جرّا حتى ستة أو سبعة أفراد، ثم يُطلَب من كل من الأفراد أن يعيد ما سمعه. وقد تبين أن كثيرين من الذين أجري الاختبار عليهم كانوا يروون أن الزنجي في الصورة كان يهدد الأبيض شاهراً عليه موسى حلاقة، وهكذا سمعوا الرواية، وفقا لأميالهم العنصرية.

يقولون: “دعوا الوقائع تتكلم” ولكن العالم الرياضي الشهير هنري بوانكاره أظهر (منذ بداية هذا القرن) الالتباس الكامن في جملة شائعة كهذه. فقد أجاب أن الوقائع لا تقول شيئاً. ذلك لأ

ن الإنسان هو الذي يعطيها معنى، لذا يمكن أن يكتشف المعنى الكامن في الوقائع أو أن يحجبه.
هكذا لا تنجلي للمرء معاني الوقائع إلا إذا كان كيانه مستعداً لاقتبالها منفتحًا لها. ألَيْس تاريخ العلم نفسه شاهداً على ذلك؟ كل النظريات الجديدة التي طورت العلم ودفعته إلى الأمام، كنظريات لا فوازييه وكلود برنار وباستور وأينشتاين وفرويد حوربت بضراوة وسُخّفت من أقطاب العلم في الحقبة التي ظهرت فيها. لماذا؟ لأن أقطاب العلم هؤلاء، رغم مستواهم العقلي الرفيع، لم يكونوا منفتحين إلى المعاني الجديدة التي جلاها المكتشفون. ذلك لأن تفهم النظريات الجديدة كان يتطلب منهم ما هو أعمق بكثير من مجهود عقلي مجرد، كان يتطلب منهم إعادة نظر في عادات التفكير التي ألفوها والتي أصبحت مرتبطة بطمأنينتهم وكرامتهم. قبول الحقائق العلمية إذًا، على هذا الصعيد، مشروط بتواضع عميق وتخطٍّ للذات وقبول للمجازفة وإعادة نظر في الكيان الشخصي نفسه.

ولكن ما يصح بالنسبة للحقائق العلمية يصح إلى أبعد حد بالنسبة إلى الله. قبول الله يفترض في الإنسان التزاماً كيانياً عميقاً. ذلك التواضع أمام الواقع الذي يفترضه عند العالم اكتشاف معان جديدة، مطلوب إلى أبعد الحدود ممن شاء أن يقترب من الله. ذلك أن قبولي لله يعني اعترافي بأنني لا أملك شيئًا من ذاتي أو بالأحرى لا أملك الا عدمي طالما لا يخرج كياني من العدم في كل لحظة إلا بفعل الله.

إعترافي بالله يعني اعترافي بأنني عدم بحد ذاتي وأن كياني وكل خير فيّ ليس سوى هبة من الله وبعبارة أخرى أنني لست بموجود إلا لأن الله يحبني ويوجدني. لا يمكنني أن أقبل الله إلا إذا كنت مستعداً استعداداً حياتياً، كيانياً، للاعتراف بتبعيتي المطلقة، وبدون هذا الاستعداد الكياني لا يمكن لعقلي أن يُقر بالله لا بل سوف يحاول بشتى الوسائل أن يتهرب من هذا الاعتراف وسيتذرع بكل الحجج الممكنة لإنكار الله. مجمل الكلام: أن قبول الله يفترض استعدادي العميق لإعادة النظر في اكتفائيتي.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share