هذا الكتاب يجمع ويعيد صياغة دراسات امتدّت على نحو من ربع قرن، من 1972 إلى 1998، وتناولت، إجابة على أسئلة طرحها علي الشباب من مختلف المناطق والمذاهب، موضوع الجنس بمختلف أبعاده وتشعّباته، برؤية تتآزر فيها وتتشابك، إنما دون اختلاط، النظرة الإيمانية من جهة، واجتهاد فكريّ يستند إلى معطيات علم النفس الحديث من جهة أخرى. إنه، من هذه الناحية، مكمّل لكتابي الأوّل في الموضوع، وهو “الجنس ومعناه الإنسانيّ”، الذي صدر للمرة الأولى سنة 1971، عن منشورات النور في بيروت، وصدرت مؤخراً، عن نفس الدار، طبعته الرابعة، وهو كتاب أتيح له، بفضل الله، أن يخاطب العديد من الشباب، وينقل إليهم رؤية لم يألفوها، حيّاها الشاعر الكبير، المرحوم الأستاذ يوسف الخال، بكلمات مؤثرة نُشرت وقتها في “ملحق النهار”.
الفترة الزمنية التي يغطّيها الكتاب الحاضر شهدت في الغرب انفجار ما عُرف بـ “الثورة الجنسيّة”، التي نادت بتحرير الفرد عبر “تحرير الجنس” من كل قيد وإطلاق العنان لنزواته بدون أي رادع، عملاً بذلك الشعار الذي سُجّل على جدران المباني الجامعية في باريس، أبان الانتفاضة الشبابية في أيار 1968، والقائل ((يُحَرَّم التحريم)) (“IL est interdit d’interdire”). ولكن سرعان ما أُجهض الحلم، واتّضح إنّ تيار ((الحرية الجنسيّة)) قد أخطأ مرماه وانقلب على أهدافه، فحجم الحريّة بإفرازه نمطيّة وإكراه من نوع جديد، وقزّم الجنس وأخمده بإفراغه من فحواه وفرحه، وصودر واستُغٍلّ من قٍبَل مصالح تجارية ضخمة وجشعة، آخر اهتماماتها تحرير إنسان لا ترى فيه سوى أداة للكسب الوفير. هذا الإخفاق، أشار إليه العديد من النقّاد، كان أواخرهم الباحث الفرنسي جان كلود غيبّو Jean-Claude Guillebaud في كتابه الملفٍت الصادر سنة 1998 عن منشورات Seuil الباريسيّة بعنوان ((طغيان اللذة)).
ولكن هذا لا يصبّ، على عكس ما قد يُظنّ، في صالح التزمّت الجنسيّ، ذلك الشقيق اللدود للإباحيّة، التي تغتذي منه كما يغتذي هو منها، ويجتمعان كلاهما، في آخر المطاف، على تبخيس واحد للجنس بتجريده من إنسانيّته. ذلك أنّ ((الثورة الجنسية))، على أخطائها وعلاّتها، قد تركت لنا رصيداً إيجابيًّا لا يمكن إغفاله أو الاستهانة به، وهو بالضبط على نقيض ما يَجتَرُّهُ التزمّت منذ القديم.
فقد أعادت اكتشاف المكانة الأساسيّة التي يتمتع بها الجنس في الحياة الإنسانيّة، ودوره المحوريّ فيها، الذي يتعدى وظيفة الإنجاب. بعد ((الثورة الجنسيّة))، اصبح لا مناص من تأكيد ما كان قد بينّه تيار التحليل النفسيّ، وهو أن الجنس لا يمكن الاستخفاف به أو القفز فوقه، بل هو مجالٌ حيويّ من مجالات الحياة الإنسانيّة، تمتد آثاره الى كافة المجالات الأخرى لتخصبها أو تعيقها،وأنّ حتى من شاء تجاوز تعابيره البدنية سعياً إلى تحقيق حبّ كبير، لا بدّ له أن يستند هو أيضاً إلى ديناميّة الجنس، وإن كان ذلك في خطّ التسامي بهذه الطاقة المبدعة.
كتابنا يندرج في خط هذا التقويم، الإيجابيّ أصلاُ، للجنس، وعنوانه يشير إلى ذلك إذ يتحدث عن “أنوار” الجنس و”ظلاله” ويقدّم الأولى على الثانية. فالنور سابق للظلّ، ولا وجود للظلّ إلا إذا اصطدم النور بعوائق آلت إلى حجبه. يقيننا أن الجنس نيّر في أصالته وأن ما قد يصدر عنه من شرور – لا يمكن لأحد أن ينفيً كثرتها وخطورتها، خاصةً إذا نظرنا إلى مخاذي عالم اليوم في هذا المجال – إن هو إلا نتيجة لانحرافه عن هذه الأصالة، سعياً إلى الرخيص والمُبتَذَل. علماً بان طريق الأصالة شاقة في كل الميادين، وتتطلّب بالتالي يقظة دائمة وكفاحاً دؤوباً.
إنما بيت القصيد هو، كما يبدو لي، في تحديد نوعيّة هذا الكفاح، كي يأتي في مساره الصحيح ولا ينقلب على أهدافه، فيخدم الزيف بدل الأصالة، والموت بدل الحياة. هنا لا بدّ برأيي، من تجاوز صراع عقيم بين جنس يُختَزَل في ناحيته الغريزيّة، وبين شريعة (أخلاقيّة أو دينيّة)، تُعتبر مسلَّطةٌ عليه من خارج ومن فوق.
إنّ صراعاُ من هذا النوع، كما أثبتت خبرة طويلة ومريرة، يُجَزَّئ الإنسان، ويحكم عليه بالتمزّق بين وجه أساسيّ من كيانه، وبين وجه آخر، أساسيّ هو أيضاً، بدل تحقيق وحدة حيّة، متناسقة، تحفظ لكل بعد حقّه وتغني به البعد الآخر. هذا النمط من الصراع يؤدي إلى تجريد النزعة الجنسيّة من إنسانيتها، وبالتالي إلى إذكاء ما هو فظّ وعشوائي فيها. وقد يؤدي القمع المقرون بالتجاهل إلى إسكاتها في الظاهر، ولكنها، في هذه الحال، تبرع في التحاليل على الشريعة التي تتنكر لها، فتتستر بشتّى الأغطية وتتسرّب، متخفية تحت هذه الأقنعة، إلى كلّ مجالات السلوك الإنساني فتشوّهها، مفسدة إيّاها بالوسواس والتسلّط والتشنج والقسوة…
المطلوب إذاً ليس قمع الجنس بل هدايته عبر تحويله بالحبّ. وعندما نقول ((هدايته)) و ((تحويله))، فلسنا نقصد بذلك أن يتحول إلى شيء غريب عنه، بل إلى ما هو جوهره، إلى قلب قلبه إذا صحّ التعبير، ألا هو اللقاء، المسجَّل التوقُ إليه، كما سوف نرى، في صميم الجنس لدى الإنسان. المطلوب إذاً، لا ((الحدّ من غلواء الجنس))، كما يُظنّ ويقال، بل، على العكس، تحاشي مسخه وتحجيمه، بل الذهاب به إلى أقصى شوطه، عبر إطلاقه من قيود الانطواء البخيل، بل إنقاذه من التفاهة والسأم اللذين يضيع فيهما، كما تغور المياه الحيّة في الرمال، إذا ما اختزل في الإثارة الرخيصة وسطحية الأحاسيس.
تلك الأفكار التي تكوّن لحمة هذا الكتاب، الذي لا بدّ أن يجد القارئ فيه بعض الترداد، لأنه مجموعة دراسات مستقلة كتبت في أوقات مختلفة. ما قد يشفع بهذا الترداد كون العناصر المتكرّرة إنما تأتي كل مرة في إطار مختلف، من شأنه أن يمنحها نكهة متميزّة.
طرابلس-الميناء (لبنان)، في 20/4/1999
في نور الزمن الفصحي
كوستي بندلي