طبعات أخرى: منشورات النور- الطبعة الأولى – 1983
هذا الكتاب، الذي صدر، في طبعته الأولى، سنة 1982، عن منشورات النور (بيروت)، يصدر الآن في طبعة ثانية موسّعة.
لقد أردناه، في الأساس، – وكما يشير عنوانه الأصلي “صورة المسيح في الزواج والأسرة” – تعبيرًا عن رؤية روحيّة، إيمانيّة، لهذين الواقعين الإنسانيين، ومن أجل توضيح هذه الرؤية، استلهمنا الكتاب المقدس والتقليد الآبائي والليتورجي، وأعمال اللاهوتيين ممّن ينتسبون إلى الأرثوذكسية أو إلى المذاهب المسيحية الأخرى، يجمع بين هؤلاء وأولئك، ذلك التراث الواحد غير المنقسم، الذي هو الأصل، والذي ينهد إليه اليوم المسيحيون ليتجاوزوا به انقساماتهم.
ولكن الرؤية الروحية هذه، كان لا بد لها أن ترتكز إلى الواقع الإنسانيّ الفائق الغنى والتعقيد الذي تتكوّن منه، وتشكّله بآن، مؤسستا الزواج والأسرة، فتتجسّد في هذا الواقع، وتلهمه وتوجّهه وتقوّمه وتصلحه وتنيره، وتعطيه معناه العميق وترسم له أفقه البعيد. بالمقابل، فإذا لم تترجم الرؤية الروحية، تعاملاً أصيلا يعاش على صعيد المشاعر والمواقف والسلوك، بقيت مجرد مفاهيم ذهنية وتمنيات طيبة لم تجد طريقها إلى عمق الكيان لتتغلغل فيه وتحوّله كلّه. وقد يعاني مؤمنون طيبّو النية، من التناقض الذي يجدونه بين توقهم الروحيّ الصادق، وسلوكهم الزوجيّ والأسريّ الراهن، فلا يفقهون لهذا التناقض سببًا سوى تقصير منهم ينزعون إلى المبالغة في تقديره، في حين أنه تعوزهم معرفة أدقّ لمقومات العلاقة الإنسانية الأصيلة، وللعقبات النفسية التي تنتصب في وجهها دون أن يشعروا. من هنا كان لا بدّ من إيضاح معالم المجال الإنساني، الذي تدعى المعاني الروحية إلى الاندماج فيه وتوجيهه نحو أصالته العلائقية.
لذا عهدنا، منذ الطبعة الأولى، إلى استجواب معطيات علوم الإنسان، واستنرنا بأبحاث الذين تناولوا، بالتحليل، والتوجيه، والعلاج، شؤون الزواج والأسرة، وقد توسعنا، في الطبعة الثانية، بنوع خاص، في ذكر مساهمات هؤلاء، نظرًا لما تسلّطه، على الواقع الزوجيّ والأسريّ، من أضواء تسمح بفهمه بشكل أفضل بشتى جوانبه ومشاكله، وبالتالي، من عيشه بشكل أسلم وأنجح وأسعد، وأكثر انسجامًا، في آخر المطاف، مع القصد الإلهي.
الإضافات الكثيرة التي أدخلناها، من هذا القبيل، على الطبعة الحاضرة، وضعنا أكثرها في الحواشي، كي نحافظ قدر الإمكان على بنية الكتاب الأصلية. ولكن هذا لا يعني البتة أنها ثانوية من حيث الأهمية، بل إننا نتمنى على القارئ أن يوليها كبير الاهتمام، لأن من شأنها أن تساعده كثيرًا على فهم ما ورد في متن الكتاب، فهمًا أوضح وأعمق وأكثر تماسًا بأحوال الحياة اليومية وتعقيداتها.
هذا الفهم لا بدّ منه من أجل مواجهة واعية للزواج والعمل على إنجاح مهمته الإنسانية، الدقيقة والجسيمة، التي تقترن، في خبرة المؤمن، ببعد إلهي – إنساني. في عالم اليوم، الذي تهتزّ فيه القيم وتتداعى المؤسسات وتضمر العلاقات، وحيث يعاني الإنسان من العزلة والقلق والضياع، تتعالى الأصوات منادية بتعزيز الأسرة من حيث هي بؤرة استقرار وأمان ومعنى. ولكن قلب الأسرة ومحورها، إنما هو، كما يوضح كتابنا، الثنائي الزوجي، وحبه الذي يحيي الزوجين وكلّ ما يبنيانه معًا. وأول ما يترتب عليهما أن يبنياه دون انقطاع، إنما هو هذا الحب عينه الذي يشكّل بناؤه ورشتهما الدائمة. من هنا العنوان الجديد الذي أعطيناه للكتاب، وجعلنا منه عنوانه الرئيسي، ألا وهو “الزواج درب الحب ومختبره”.
وقد حاولنا أن نبيّن أن أكبر عدوّ للحب – وما يفسّر فشله الشائع، للأسف، في الزواج، سافرًا كان هذا الفشل أو مقنَّعًا – هو بالضبط أن نستكين له، أن “ننام على أمجاده”، أن نعتبره “تحصيل حاصل”، أن نغالي في الارتياح إليه بحيث نستقيل ونغفو، متناسين أنه عملنا الدؤوب ومحجّتنا الدائمة، وأنه ليس وراءنا، مجمَّدًا في عقد حدّد مرة واحدة مشاعرنا ومواقفنا وسلوكنا، وإنتهى الأمر، وضمن مرة واحدة اتفاقنا وسعادتنا، وانتهى الأمر، بل هو “درب” ممتد أمامنا أبدًا، درب ليس مرسومًا سلفًا كما قد نتوهّم، بل نرسمه نحن في كل لحظة، وفق ما يستجدّ من أحوال وظروف فينا وحولنا، ونبتكره معًا بلا انقطاع.
إن شئنا الحب أن يدوم وينمو، كان علينا أن ندرك أن حياتنا الزوجية ليست مجرّد نتيجة له، بل هي التي تنشئه باستمرار وتضعه على المحك يومًا بعد يوم، “تختبره” كما يُختبر الذهب في البوتقة ليتنقى ويصفو ويتألق. الزواج “مختبر” الحب، لأن هذا إنما يصمد وينمو ويعمق عبر ما يجتازه فيه من خلاف يليه اتفاق، من صدام تعقبه مصالحة، من خيبات وتجاوزها، من أزمات وحلّها بالحسنى عبر تفاوض يتغير به الطرفان معًا. الزواج والأسرة ليسا مجرد ملاذ، إنهما لا يصبحان هكذا إلا عبر يقظة وعمل وكفاح.
هناك أكثر من شبه بين الحب والإيمان، اللذين، في سر الزواج، يتعانقان. فكلاهما يشيع في القلب اطمئنانًا عميقًا، ولكن كلاهما يضمحلّ إذا استكان له المرء معتبرًا إياه من الأشياء التي يملكها. المؤمن يهتف: “أؤمن، يا رب، ولكن أعن عدم إيماني” (مرقس 9: 24)، كذلك فلسان حال المحبين هو: “أحب، ولكن همّي أن يدوم حبّي وينمو وينجو من شوائبه”. من عرف الحب حقًا، تيقن أنه لا يملك المحبوب، لأنه ينال ذاته منه بلا انقطاع، وشعر أنه، في أية لحظة، لم يصل بعد، لأنه أبدًا في الطريق.
الزواج لا يغني عن اكتساب الحب، وإلا تحوّل إلى قوقعة جوفاء. إنه، أمام الحب، درب يمتدّ إلى ما لا نهاية.
الشارقة، 21 و22 كانون الثاني 1999
ك.ب.