الله والشر والمصير – “الإنجيل على دروب العصر” – منشورات النور -الطبعة الأولى – 1993

mjoa Tuesday September 23, 2008 214

allah wa sharهذا الكتاب مكوّن من مجموعة مقالات كُتبت بين حزيران 1982 وكانون الأول 1991، وقد استعيدت هنا وبُوّبت وأُدخل عليها بعض الإضافة والتعديل. كانت قد ألقيت أصلاً في إطار “ندوة الثلاثاء”، وهي حلقة كانت تُعقد مرة كل أسبوعين في فرع طرابلس – الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية، بين حزيران 1981 وكانون الأول 1991، وكانت تقوم على أسئلة يطرحها الشباب حول كل ما يتصل بالإيمان وعلاقته بفكرهم وحياتهم، ثم يشاركون في الإجابة عنها مجتمعين بإشراف محاضرٍ (وقد كنتُ واحدًا من هؤلاء المحاضرين) كان ينسّق مداخلاتهم ويختتمها بعرض يلقيه حول موضوع السؤال المطروح.

.

هذا وإذا تمعّنا في الأسئلة التي انطلقت منها مواضيع الكتاب، لفتت نظرنا صورة عن الله تُستشف من خلالها، وهي صورة إله جبار منتقم “ينزل غضبه على الإنسان” و”يقتل في سبيل التأديب” و”يرسل إلى جهنم” ويضحي بابنه الوحيد لإرضاء عدالته المهانة وأخيرًا “يفني البشرية” في اليوم الأخير. ذلك التصوّر عن الله استمدّه الشباب من محيطهم العائلي والاجتماعي وتشرّبوه عبر التربية التي تلقوها (وهي تربية قمعية عادة، تستند لتبرير نهجها إلى هذا التصوّر وتغذّيه وتخلّده بآن). ولكن الشباب لم يرتاحوا إلى هذه الصورة رغم تلقينهم إياها، لا لأنها صدمت حسّهم الإنساني وحسب، بل لأنهم اكتشفوا – كما تعبّر بعض أسئلتهم – تناقضًا صارخًا بينها وبين الصورة التي وصلتهم عن الله من احتكاكهم بالإنجيل وتأثرهم بمناخه عبر انتمائهم إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسية، فأثار هذا التناقض مشكلة لديهم ودفعهم إلى السعي لاستجلاء الحقيقة رفعًا لكل غموض.

هذا ما قادنا إلى التركيز، في هذا الكتاب، على التعرّض لصورة شائعة بين الناس، تشوّه بنظرنا وجه الله تشويهًا فادحًا. إنها صورة إله تُنسب إليه الشرور الطبيعية كالأمراض والمصائب والكوارث، سواء أتمّت هذه النسبة بصورة فظّة كما في التعبير الشعبي الذي يتردد على الألسنة بشكل تمنٍّ: “الله لا يضرّك” (مما يفترض أن الله كائن يُخشى ضرره وأذاه)، أو بالصيغة الملطّفة التي يستخدمها المتنوّرون وهي أن الله “يسمح” بهذه الشرور، وكأنه يتنصّل منها ويغضّ النظر عنها بآن (وكأن هؤلاء، كما أشار أحد اللاهوتيين، يجعلون من موقف الله موقفًا شبيهًا بموقف بيلاطس البنطيّ عندما “غسل يديه” متنصلاً من موت يسوع الذي كان قادرًا أن يمنعه لو شاء), هذا بالنسبة للشر الطبيعي. أما الشرّ الخلقي، أي الخطيئة، فموقف الله منها، على حدّ الرأي الشائع الذي نحن بصدده، أشبه ما يكون بموقف أحدنا إذا ما لحقته إهانة. فهو يتربص لمرتكبي الخطيئة ويصبّ عليهم جام غضبه وينزل بهم أشد الويلات، ويميتهم “تأديبًا”، وإذا ما أصرّوا على عصيانه “يرسلهم” بعد موتهم إلى جهنم ويعذبهم بالنار بلا رحمة إلى أبد الآبدين.

هذا الإله “الإرهابي”، الذي هو على صورة قسوة قلب الإنسان (الناتجة عن ضعفه وعجزه وفنائيته)، بدل أن يكون نقيض الشر، إنما هو كليًا من جهته. فهو الذي يرسِل الشر الطبيعي أو يتغاضى عنه، وهو الذي يعاقب على الشر الخلقي بشر أعظم، باسم عدالة هي أشبه ما تكون بالانتقام. وبالتالي، في هذا المنظور، يكون الشر هو المنتصر الأكبر، ويكون للموت الكلمة الأخيرة في الوجود.

إلا أن هذا “الإله” إنما هو على نقيض الإله الذي انكشف لنا في تعليم يسوع وسيرته، والذي “لا نعرف آخر سواه”، لأن كل تصور لله ما عداه مشوب بالأهواء والهوامات البشرية. وقد عرفنا بيسوع المسيح أن “الله محبة” (1 يوحنا 4: 8 و11)، وأن المحبة اسمه الفريد وصفته المميّزة. من هنا أن هذا الإله لا يرسل الشرور الطبيعية، بل لا يجوز أن يقال أنه “يسمح بها”. ما يسمح به بالحقيقة هو أن توجد الخليقة فعلاً لا شكلاً ، أي أن لا تكون مجرد ظلّ له، مما يفترض أن يمدّها بالوجود (وإلا لما كانت) وأن ينسحب منها بآن (وإلا لما كانت متمايزة عنه، أي لما كانت فعلاً). هذا ناتج عن كون الله محبة وعن كون الخلق هو فعل محبة. ومن شأن المحبة أن تقيم المحبوب بإزائها وأن ترفض تذويبه فيها وإلغاء فرادته. ولكن ارتضاء الله بأن توجد المخلوقات يعني السماح لها بأن توجد بما لديها من خصوصية، أي بما تتسم به من محدودية ناتجة عن طبيعتها كمخلوقات صادرة من العدم وبالتالي بعيدة عن كمال الوجود. وبعبارة أخرى السماح بأن تكون الكائنات الطبيعية ناقصة وبأن تكون الكائنات العاقلة معرضة إلى جنوح حريتها. هكذا فإن الله، إذ ارتضى الخليقة، قيّد قدرته الإلهية، إذ قَبِلَ أن تجد هذه القدرة لها حدودًا ترسمها محدودية المخلوقات. وهذا ليس تعبيرًا عن ضعف في الله، كما قد نتصوّر، بل عن هذه القدرة المذهلة لديه أن يعلو فوق اقتداره بدل أن يكون أسير هذا الاقتدار. سرّ الشرّ (بوجهيه الطبيعي والخلقي)، هذا السرّ الذي لا يمكن لأحد أن يدّعي جلاءَه بالكلية إنما جلّ همنا هنا أن نتصدى للتعابير المشوهة عنه، هذا السرّ إنما هو كامن في ذلك الاحترام، المحيّر لمداركنا، الذي يبديه الله لواقع مخلوقاته المحدود، وفي إحجامه عن أن يغتصبها اغتصابًا.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share