هذا الكتاب – الذي أرى فيه امتدادًا وتكملةً لمؤلَّفٍ صدر لي سنة 1988، عن منشورات النور، بعنوان “نضال عنفيّ أو لا عنفيّ؟ لإحقاق العدالة” – يشتمل، كما يشير عنوانه، على قسمين. القسم الأول (“ملامح”) يركّز على بحث نظريّ في سمات النضال اللاعنفي وخصائصه، وذلك عبر ندوات سبق أن تحدّثت فيها عن هذا الموضوع، وينقل الكتاب مضمون مداخلاتي فيها. منها ثلاث ندوات عُقدت في مناسبات وأماكن مختلفة، حول كتابي السابق المشار إليه أعلاه، وقد أتيح لي من خلالها، في سياق إجابتي عن أسئلة وُجِّهت إليّ مسبقًا، أن أوضح أفكاري وأدعمها وأتفاعل مع ما أثارته من تساؤلات واعتراضات، فشكّل ذلك إثراء للفكر الذي عبّرت عنه في كتابي الأول. فكان إذًا من الطبيعي أن أنشره لأُشرِكَ به القرّاء بوجه عام، وبنوع أخصّ لأتابعَ به الحديث مع من أبدوا اهتمامًا بمضامين كتابي السابق، وأجيب ربّما عن بعض تساؤلاتهم حولها.
أمّا القسم الثاني (“صوَر”)، فيركّز على خبرات في النضال اللاعنفي تكمِّل ما كنت قد أوردته في هذا الباب في كتابي “نضال عنفي أو لا عنفي؟…”. فقد تناول هذا الأخير، بنوع أخصّ، خبرات رائدَين ذائعَي الصيت للنضال اللاعنفي هما غاندي ومارتن لوثر كينغ. أمّا الكتاب الحاضر فإنه، إلى جانب عودته الجزئية إليهما (في قسمه الأول) يتبسّط في عرض خبرات لشخصيات وفئات ليست معروفة بالدرجة نفسها من الجمهور الواسع، خاصة في بلادنا. فهو، إلى جانب توسّعه في سرد نضال قيصر شافيز في الولايات المتحدة، الذي لم يحظَ إلا بعرض سريع في الكتاب السابق، يركّز على صفحات من النضال اللاعنفيّ البهيّ من أجل حقوق الإنسان الذي شهدته أميركا اللاتينية طوال نحو عشرين عامًا، بين الستينيّات والثمانينيّات، في ظل ديكتاتوريات عسكرية شرسة قائمة آنذاك وقد عاد اليوم ذكرها إلى الأذهان نتيجة الضجة التي أثارها، ولا يزال، اعتقال الديكتاتور التشيلي السابق الجنرال أوغستو بينوشيه في بريطانيا، ومطالبة عدة جهات بمحاكمته على الجرائم بحقّ الإنسانيّة التي ارتكبت في عهده، واضطرار حكومة الولايات المتحدة، في هذه الأجواء، إلى الإقرار بما تحمله من مسؤولية من هذا القبيل.
ويتطرّق القسم الثاني أيضًا، في نهايته، إلى خبرتين رائعتين في النضال اللاعنفي كانت المنطقة العربية مسرحًا لهما (إحداهما في الجولان المحتلّ والثانية في فلسطين المحتلّة). وهما، على تواضعهما، خبرتان جديرتان بكل اهتمام، لأنهما تنعشان الأمل بأن يشق هذا النّمط من النضال طريقه تدريجيًا إلى منطقتنا التي لم تألفه بعد، ولا تعرفه إلا قليلاً، وبقي عليها أن تستكشف شيئًا فشيئًا، لا نُبله وشجاعته فحسب، بل وفعاليته الراهنة في أصعب الصراعات.
في فجر 8 كانون الأول 1999، كنت أستمع من إذاعة مونت كارلو، في إطار برنامج إذاعي بعنوان “ثقافات”، على مقابلة مع كاتب عراقيّ، ولَكَم كنت متجاوبًا مع تأكيده أنّ العالم العربي يحتاج إلى التعرّف على أساليب النضال اللاعنفي، والاطِّلاع على قوّتها وفاعليّتها. كتابي الحاضر، كسابقه، همّه أن يثبت أن النضال اللاعنفيّ إنّما هو قوّة فعلية، شرط أن يُحسَن استعماله وأن لا يُرتَجَل ارتجالاً، وأن كون هذه القوة إنسانيّة وشريفة لا يحول دون كونها ضاغطة بكل معنى الكلمة، لا بل يزيد من وطأة ضغطها، بالضبط لأن شرف أساليبها ينتزع الذرائع من المعتدين، يعرّيهم ويفضحهم حتى في عيون أنفسهم وأنصارهم. ناهيك بالرأي العام المحايد الذي تعطيه وسائل الإعلام الحديثة حجمًا عالميًا. لذا فإن فعالية هذا النضال تقضّ مضاجع الظالمين، فيعمدون إلى ترهيب الداعين إليه ولا يتورّعون عن اغتيالهم إذا استطاعوا.
الانتفاضة الفلسطينية (1987-1993) كانت حركة شبه لا عنفية، ومع ذلك، أو بالأحرى لأجل ذلك، استطاعت ما لم يستطعه ما سبقها من وسائل النضال، ألا وهو فرض الاعتراف للفلسطينيين بأنهم شعب وأمّة وليسوا شرذمة من الناس يمكن تجاهلها كما ادّعى طويلاً قادة الصهيونية. وفي السنة الأولى من نشوب هذه الانتفاضة، وفي 13 حزيران 1988 بالضبط، أبعدت السلطات الإسرائيلية عن البلاد المناضل الفلسطيني اللاعنفي مبارَك عَوَضْ، متَّهمة إياه بأنه “حرّض السكان الفلسطينيين على العصيان”، مشيرة بذلك إلى أنه كان يخيفها مع أنه لم يُشهر سلاحًا ولم يدعُ أحدًا إلى شهر السلاح. أملي أن يثير كتابي لدى القراء العرب رغبة في تخطّي الأفكار المسبقة نحو تعرُّف حقيقي إلى طبيعة النضال اللاعنفي وإلى ما يختزنه من طاقات.
في 20 تشرين الثاني 1997، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالإجماع، بناء على الاقتراح الذي تقدمت به منظمة الأونيسكو، إعلان سنة 2000 سنة عالمية لثقافة السلام. كذلك علمتُ أن مجلس الكنائس العالميّ يخطّط لتكون الحقبة الممتدة بين عامي 2001 و2010، بالنسبة للكنائس الأعضاء فيه، حقبة كفاح ضدّ العنف المستشري في عالم اليوم على قدم وساق. ولكن الدعوة إلى السلام وإلى نبذ العنف لا تستقيم ولا تتم إن لم يرافقها تجنّد من أجل استئصال أحد أسباب العنف الرئيسية في العالم، ألا وهو العنف المسجّل في هيكليات نظام عالمي خاضع لهيمنة قطب واحد ولطغيان المال، ويتّسم بليبرالية اقتصادية شرسة تكرّس أولوية الكسب على الإنسان وحاجاته وكرامته، وتضحّي بأغلبية البشر على مذبح استئثار البعض بالخيرات.
إن العنف المسجّل في التركيبة العالمية الحاضرة، والذي يؤول إلى انتهاك حقوق الإنسان الأساسية وإلى انتشار البؤس والذلّ والإحباط، من شأنه أن يؤدّي، لا محالة، إلى تفجّر العنف، على أنواعه، بين البشر. تراجع العنف في العالم يقتضي إذًا التصدّي الجادّ والشجاع للعنف الأساسي الذي يرتسم في هيكلياته.
لكن كيف السبيل إلى مجابهة فعّالة لجذور العنف هذه، بدون إضافة عنف جديد على ذاك الذي تضجّ به أرض هي، إلى ذلك، مدجّجة انتحاريًا بالأسلحة ووسائل الإبادة الجماعية؟ إن النضال اللاعنفي هو، برأيي، خير مرشّح لهذه المهمة التي لا غنى عنها، على طولها ومشقتها. لذا فإنّه يبدو لي، كما وللكثيرين، أن في هذا النمط من النضال يكمن مستقبل العالم. أما بلغة الإنجيل، فإنني أراه، في خضّم دنيا تعصف بها قوى الموت، شهادة للقيامة ومراهنة على انتصارها الذي يعني انتصار الحياة.
دُبي، 19-25 شباط 2000
ك.ب.