موقف إيماني من العنف

mjoa Thursday September 25, 2008 348

 

“موقف إيماني من العنف ضد الظلم، ومن حمل السلاح للدفاع عن النفس أو الطائفة”.

مقدمة: موضوع السؤال: الموقف الإيمانيّ من العنف، إذ أن “حمل السلاح” ليس سوى تعبير عن العنف. أما الميادين التي يتناول السؤال احتمال استعمال العنف فيها فهي: مكافحة الظلم، الدفاع عن النفس، الدفاع عن الطائفة.

.

من هنا إذًا ثلاث نقاط سيتناولها بحثنا على التوالي، ألا وهي:
1- العنف في سبيل الدفاع عن النفس.
2- العنف في سبيل مكافحة الظلم.
3- العنف في سبيل الدفاع عن الطائفة.

أولاً: العنف في سبيل الدفاع عن النفس.
1- هناك من طبّق، في هذا المضمار، وصية المسيح ومثاله بحرفيتهما إذ فضّل بأن يُقتل على أن يصدّ بالعنف العدوان المسلّط عليه: هناك مثلاً أميران روسيّان بوريس وغليب، قدستهما الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة لانهما قبلا أن يُقتلا دون مقاومة على يد اتباع أخيهما الطامع بالاستئثار بالملك.

2- هذا السلوك يصلح بان يكون إلهاما، اللهمّ إذا كان نابعا لا من الجبن والتخاذل (فقد قال غاندي، وهو اكبر داعية في عصرنا إلى النضال اللاعنفيّ: “حيث لا خيار إلا بين جبن وعنف فأنا أدعو الى العنف…”(1)، بل من التسامح واعتبار حياة الآخر – حتى إذا كان معتديا – أهمّ من حياتنا الذاتية. ولكن يبدو لي انه لا يصحّ اتخاذه ناموسا (والمسيحية تتخطى، كما هو معلوم، كل منظار ناموسيّ). ذلك أن اعتبارات أخرى، وجيهة، قد توحي بسلوك مخالف يتفق هو أيضا مع الوحي الإنجيليّ:

أ‌- منها أن حياتي لا تقلّ أهمية، في نظر الله، عن حياة المعتدي. إن قتل المعتدي شرّ ولا شكّ (لأنه إنسان على صورة الله، وبالتالي فهو أفضل من عدوانه، لذا ينبغي محاولة إصلاحه لا إزالته من الوجود)، ولكن قد يكون أهون الشرّين أن يموت المعتدي من أن يموت البريء.

ب‌- إن إفساح المجال أمام المعتدي ليقضي عليّ قد يشجّعه على القيام باعتداءات مماثلة على سواي، وأنا مسؤول عن حماية هؤلاء. فنلاحظ بهذا الصدد أن المسيح، وإن سلّم نفسه دون مقاومة لقاتليه، حرص، في لحظة إلقاء القبض عليه، أن لا يهلك أحد من أتباعه:
“فتقدم يسوع وهو يعلم جميع ما سيحدث له وقال لهم (أي للحراس حاملي المصابيح والمشاعل والسلاح الذين داهموه في بستان الزيتون): “من تطلبون؟” فأجابوه: “يسوع الناصريّ”. قال لهم: “أنا هو (…) فإذا كنتم تطلبوني فدعوا هؤلاء يذهبوا”. فتمت الكلمة التي قالها آنفًا: “لم أدع أحدا من الذين وهبتهم لي يهلك”.
(يوحنا 11: 4 – 9)

 

 

 ويقول غاندي بهذا الصدد:
 “… سألني ابني البكر ما الذي كان يقتضي عليه أن يفعله لو شهد الاعتداء الذي أوشك أن يكلّفني الحياة سنة 1909: هل كان عليه أن يدعني أُغتال ويهرب أو أن يلجأ الى القوة المادية ليساعدني. فأجبته أن واجبه كان يقضي عليه في هذه الحال أن يدافع عني ولو اقتضى الأمر استعمال العنف” (2).

 

 ويقول في مكان آخر:
 “أحيانا هناك اضطرار الى قتل الإنسان. خذوا مثلاً حالة مجنون ثائر منتضٍ سيفا يزهق به روح كل من يصادفه في طريقه. فلا بدّ، والحالة هذه، من القبض عليه ميتا أو حيا. فمن يتغلّب على الممسوس يكون قد استحق ثناء الجماعة. انهم يشعرون حياله بالامتنان بسبب تأديته لهذه الخدمة”(3).

 

 من هنا أنني قد أحاول استعمال العنف في صدّ المعتدي الذي يبغي قتلي، إنما بطريقة تمنعه من الوصول الى غايته ولكن دون أن تقضي على حياته. وقد يتمّ ذلك عن طريق استخدام إحدى وسائل الرياضات الصراعية كالجيدو أو الأيكيدو. يقول أحد دعاة النضال اللاعنفيّ في أيامنا، جان ماري مولّلر:
“قد يكون سبيل الدفاع عن النفس في هذه الحال لقطة أيكيدو نحيّد بها ونجمّد المعتدي، بسيطرة تامة على عدوانيتنا الذاتية، مقرنين ذلك بمحاولة نصحه بالنظرة والكلام”(4). ويأتي هذا الكاتب على ذكر محاولة الاغتيال التي تعرض لها مارتين لوثر كينغ، المناضل اللاعنفيّ الكبير لتحرير السود في الولايات المتحدة، عندما طعنته، في 20 أيلول 1958، امرأة اتضح فيما بعد أنها كانت مختلّة العقل، فيقول انه من المؤسف أن لا يكون القائد الأسود أو أحد رفاقه قد لجأ، في هذه الحالة، الى تحييد هذه المرأة بواسطة لقطة أيكيدو أو ما شابه ذلك(5).

 

 

 

ثانيا: العنف في سبيل مكافحة الظلم.
1- مكافحة الظلم هي نوع من الدفاع عن النفس. إنما يتخذ هذا الدفاع، في معظم الأحيان، شكلاً جماعيا، إذ هو مناصرة الفئة المظلومة (شعب، أمّة، طبقة…) ضد ظالميها.

2- إنها دفاع عن النفس، لأن الظالمين هم البادئون بالعنف. هذا ما يغيّب، للأسف، في كثير من الأحيان – وتغييبه ليس بالأمر البريء سواء أكان مقصودا أو غير مقصود – عند الحديث عن عنف المظلومين أو عن “الإرهاب” الذي يمارسونه. ولا بدّ من إبداء الأسف الشديد على هذا التغييب المجحف، أيا كان موقفنا من “الإرهاب”، الذي هو، برأيي، أمر لا يدافَع عنه، إنما التركيز عليه دون التعرّض لأسبابه هو من باب التهويش المغرض، وقد قال أحدهم: “إن من شاء أن يزيل البغوض عليه بتجفيف المستنقعات”(6). إن الظالمين، باستئثارهم بالخيرات، يعتدون على حياة المظلومين، يحكمون عليهم بالجوع والمرض والموت المبكّر (في كلّ دقيقتين يموت طفل في العالم من الجوع) والجهل، يفرضون عليهم العذاب والذلّ والهوان والموت البطيء، يدوسون إنسانيتهم ويدمرونها.

“لقد كتب برنانوس (وهو روائي فرنسي كبير معاصر: ك.ب.): “إن ثريا يملك المليون يتصرف، في أعماق صناديقه الحديدية، بحياة عدد من البشر يفوق ذلك الذي يتصرف به أي ملك من الملوك. ولكن قدرته هي كقدرة الأصنام، لا أذنان لها ولا عينان. باستطاعته أن يقتل، هذا كل ما في الأمر، دون حتى أن يدري بأنه يقتل” (يوميات كاهن ريفيّ).

إن هذه القدرة القاتلة تملكها اليوم التجمعات المصرفيّة والحكومات والمؤسسات المالية الدولية التي تتحكّم بالقروض وتملي شروط الاستدانة وتنظّم فيض العملة على كوكبنا. ولكن، خلافا لما كان يعتقده برنانوس، فإن مسؤوليها يعرفون انهم يجوّعون ويقتلون. “بدون أذنين وعينين”؟ كلا. انهم، برويّة، يختارون أن لا يروا. أن ضحاياهم اكثر عددا من ضحايا الإرهابيين”(7).

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share