هذا الحديث يشكل حلقة من “ندوة الثلاثاء” التي تأسست في فرع الميناء (طرابلس) لحركة الشبيبة الأرثوذكسية في 2 حزيران 1981، وغايتها معالجة كافة المواضيع التي تطرحها علاقة الإيمان بهواجس الفكر والحياة. الندوة مفتوحة لمن شاء الاشتراك بها من الشبان والشابات، وهم يقترحون مواضيعها، كما أنهم يساهمون بشكل ناشط في معالجة هذه المواضيع متحاورين حولها فيما بينهم، بحيث يخصص الجزء الأول من الاجتماع لمداخلاتهم فيما يخصص الجزء الثاني منه لعرض حول الموضوع يدلي به مرشد الندوة.
والحديث الذي يلي نصه يتعلق بسؤال طرح على ندوة الثلاثاء وبدأت معالجته في الندوة رقم 77 المنعقدة بتاريخ 27 آذار 1984. أما صيغة السؤال فهي الآتية:
“يقولون عن شعب إسرائيل إنه شعب الله المختار وأن أرضهم أرض الميعاد. الأعمال التي يقومون بها الآن من تعدّ على الآخرين تتنافى مع هذا القول. هل نستطيع أن نطلب منكم تفسيرًا لهذا القول والأسباب؟”.
نشر هذا الحديث تباعًا في مجلة “النور”، في الأعداد 2 و3 و5 و6 و7 و8 لسنة 1984، وقد أعيد نشره في سلسلة “الإنجيل على دروب العصر” بعد تنقيح النص وإدخال بعض الإضافات عليه.
مقدمة الكتاب
هذه الدراسة تتضمن رؤية لتاريخ إسرائيل، قديمه وحديثه، تنطلق لا من اعتبارات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية- على ما لهذه الاعتبارات كلها من أهمية بالغة-، بل من منطلق كتابي، أي من نفس المنطلق الذي اعتبرته اليهودية التاريخية محوريًا، من وجهة نظر دينية، ولا تزال الصهيونية تعتبره اليوم أساسيًا لاعتبارات لم تعد دينية صرفة إذ امتزجت بها، لا بل طغت عليها إلى حد بعيد، اعتبارات سياسية وحضارية.
هذا المنطلق الكتابي يُستخدَم اليوم لتبرير طروحات الصهيونية السياسية وممارساتها، حتى تلك التي ينصدم لها كل حسّ إنساني سليم وضمير بشري حيّ. والمؤسف حقًا أن ينقاد عدد من المسيحيين، في بلدي وفي العالم، إلى هذه التبريرات، إنطلاقًا من كون التوراة تشكل، في إيمانهم، جزءًا لا يتجزأ من الإعلان الإلهي، وهو الجزء من كتابنا المقدس الذي ندعوه “العهد القديم”. وعلى العكس، فإننا نرى عددًا من المسيحيين، وقد نفروا بحق من هذه التبريرات وشعروا بزيفها وخطرها وثار عليها شعورهم الوطني وحسهم الإنساني، يعمدون إلى رفض “العهد القديم”، غير مميزين بينه وبين ما يُسقط عليه من تأويل، فيقودهم هذا الموقف إلى بتر إيمانهم وانتقاصه، وذلك من جراء رفضهم للأسس التي قام عليها “العهد الجديد” نفسه والتي بدونها لا يمكن إدراكه حق الإدراك.
أمام هذين الخطأين المتناقضين، وما يحملانه من خطر على سلامة الإيمان، وما يقود إليه أولهما من مواقف منحرفة تخدم، بحجة الإيمان المسيحي، ما هو أبعد ما يكون عن أصالته ومتطلباته، كان لا بدّ من التذكير بأمرين. أحدهما أن “العهد القديم” (أي التوراة) هو، كما أشرنا، بُعد أساسي من إبعاد إيماننا. والثاني، الذي لا يقلّ أهمية عن الأول والمكمل له، هو أن هذا البعد لا يمكن، بنظر الإيمان المسيحي، أن يُفهم الفهم الصحيح إلا إذا تمت قراءته عبر يسوع المسيح الذي بدونه، كما أوضح الرسول بولس، يبقى على وجه قارئ العهد القديم قناع يحول دون رؤية معناه الحقيقي ولا ينزعه سوى المسيح (2 كورنثوس 3: 14-17) الذي به، وهو القائل “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يوحنا 14: 6)، تنكشف حقيقة مقاصد الله بحيث نراها بوجه مكشوف دون لبس أو غموض.