طبعات أخرى: منشورات النور -الطبعة الثانية – 1992
مقدمة: هذا الكتاب يأتي بمثابة تابع لكتابي السابق ” مع تساؤلات الشباب “، الذي صدر عن ” منشورات النور ” عام 1973 وأعيد طبعه عام 1980. إنه ينتظم وإياه في سلسلة تصدرها دار النشر هذه بعنوان ” تساؤلات الشباب “، ويشكل الرقم الثاني من هذه السلسلة التي أرجو أن تصدر فيها مستقبلاً عدة عناوين تتعلق بهواجس الشبيبة في بلادنا ومشاكلها وتطلعاتها.
أما الكتاب الحاضر، فعنوانه الثاني يوحي بأنه وليد استقصاء أجري بين الشباب. واليكم تفصيل هذا الأمر.
في تشرين الثاني 1974، وفي معرض إحياء نشاطات ثقافية في دار المعلمين والمعلمات في طرابلس، قررت إدارة هذه الدار طرح عدد من المواضيع التي تهم الطلاب والطالبات بحيث يُتاح لهؤلاء مناقشة كل منها مع أحد المحاضرين. وقد عمدت، تمهيداً لذلك، إلى توزيع قائمة تضم خمسة وعشرين موضوعاً مقترحاً، طالبة من الطلبة أن يختاروا خمسة منها يولونها الأولوية على سواها ويتخذون منها بالتالي برنامجاً لمحاضرات ذلك العام الدراسي. وكانت الدار المذكورة تضم في ذلك الحين 90 طالباً و 213 طالبة قُبلوا فيها عن طريق المباراة بعد حيازتهم على الشهادة التكميلية، ليقضوا فيها ثلاثة أعوام يتخرجون بعدها حاملين الشهادة التعليمية. أما نتيجة الاستقصاء الأولي الذي أشرنا إله، فقد أتت على الوجه التالي : اختار الطلبة خمسة مواضيع أتى في رأسها موضوع “الصراع بين الأهل والأولاد”، الذي حصل على 177 صوتاً، وتلاه موضوع “وضع المرأة” الذي حاز على 146 صوتاً. عند ذاك عمدت الإدارة،تمهيداً لمناقشة الموضوع الأول، إلى توزيع التعميم الآتي نصّه على التلامذة :
استقصاء حول موضوع “الصراع بين الأهل والأبناء”
تمهيداً لمعالجة موضوع الصراع بين الأهل والأبناء الذي نال الأولوية في الموضوعات التي طُرحت في الاستقصاء السابق، يُرجى ملء الاستقصاء التالي لتكون المعالجة موضوعية، علماً بان نتيجة هذا الاستقصاء ستوضع بين يدي من سيتولى معالجة الموضوع معكم ليستفيد منها.
أولاً : عدّد المسائل التي تشعر انك تختلف فيها مع أبويك.
1. _
2. _
3. _
4. _
5. _
6. _
ثانياً : اذكر السبب أو الأسباب التي تعتقد أنها وراء معارضة الأهل لرغباتك.
1. _
2. _
3. _
4. _
5. _
6. _
هذا وقد عهدت إلى إدارة الدار بمعالجة هذا الموضوع في حديث للطلبة تلاه حوار، وقد تم هذا الحديث يوم السادس من كانون الأول 1974، وكان نواة الكتاب الحاضر. إن البحث الذي يتضمنه هذا الكتاب ينطلق بالتالي من أوضاع بيئة محددة جغرافياً واجتماعياً، ولكنها تحمل، فيما أعتقد، على خصوصيتها، ملامح تنطبق إلى حد ما على مجتمعنا اللبناني بمجمله لا بل على المجتمع العربي بوجه عام في المرحلة الانتقالية التي يعيشها.
في هذا الكتاب، أكثر مما في الذي سبقه، حاولت أن أسمع أصوات الشباب. لذا أثبتت في متنه العديد من أجوبتهم، كما وردت في الاستقصاء، وهي تعبر بصراحة عن معاناتهم وتحمل تعابير الضيق والألم والرفض. لقد أخذت هذه الأصوات على محمل الجد الكامل وحاولت أن أتفهم في العمق ما تعبر عنه من تأزم في العلاقة بين البناء والبنين، وأن أرسم، انطلاقاً منها، صورة عن هذا التأزم، وأن أحلل أسبابه مستلهماً ما أورده الشباب أنفسهم من أسباب. ولكنني لم أقصد من وراء ذلك مجرد البحث العلمي، إنما كانت غايتي الأساسية نفسية تربوية، وهي مساعدة الأهل والأبناء على حد سواء على اكتساب وعي أفضل للعوامل التي تؤثر في علاقاتهم، وللخلفية النفسية التي تنطلق منها تلك العوامل، والشحنات الانفعالية التي ترافقها، علً هذا الوعي يخولهم أن يتخطوا الصراع العميق الذي يتأذى به كل من الطرفين، نحو مواجهة أكثر موضوعية وصفاء لنواحي الخلاف فيما بينهم، بغية العمل معاً على إيجاد الحلول المناسبة.
هذا لا يعني أنني أدعي إمكانية زوال كل مشكلة في العلاقة بين الآباء والبنين، وحلول تفاهم كامل بينهم لا تشوبه شائبة. إذ لا بد من تأزم في العلاقات الإنسانية بشكل عام، والعلاقات العائلية بشكل خاص. ذلك أن التأزم تعبير طبيعي عن التمايز بين الفئات والأجيال والأشخاص، ولا علاقة حقيقية بدون هذا التمايز بل ذوبان وطغيان.
فإذا بقي هذا التأزم ضمن حدود معقولة، فهو دليل عافية وديناميكية وحافز للتجدد والتقدم. إنما يقتضي للتأزم، كي يتسنى له أن يؤدي دوره الإيجابي هذا، أن يكون مقروناً بالحوار وملطفاً به. والحوار ليس بالأمر اليسير لأنه يقتضي انفتاحاً حقيقياً على الآخر في اختلاف آرائه ومواقفه، واستعداداً صميمياً لإعادة النظر في الذات على ضوء ما نكشفه هند هذا الآخر.
جلّ ما يبتغيه هذا الكتاب هو التمهيد لهذا الحوار. همّه أن يلعب لا دور المرشد الفوقيّ بل دور الوسيط، أي أن يساعد كلاً من الطرفين -الأهل والأبناء – على تخطي الرفض والتجاهل المتبادلين من أجل الاستماع الحقيقي – بعيداً عن جو الشجار الذي يعطل كل اتصال – إلى وجهة نظر الفريق الآخر، وتفهم ما تحويه من إيجابيات وما تفرضه من مراجعة للموقف الذاتي. علّه بذلك يعاون الأهل على أن يكتشفوا، من وراء رفض أبنائهم ومشاعرهم العدوانية، ما يحاولون التعبير عنه، من خلال ذلك، من حاجة ماسة إلى اعتراف الوالدين بهم، ومن نداء ملح موجّه الى هؤلاء كي يسهّلوا طريق الرشد أمام ذريتهم. وعلّه يعاون البنين (الذين تمنحهم ثقافتهم في كثير من الأحوال ما لم يُمنح للآباء) على أن يلتقطوا، وراء تصلّب الأهل وسلطويتهم، ما يغلّفه هذا الموقف من رغبة صادقة في حماية أولادهم من مخاطر الحياة ومزالقها.
أمنية الكتاب هي المساعدة على إحلال الحوار البنّاء عوض التصادم والتنافر، والتبادل الواثق والصريح للآراء والمواقف بدل جدار الصمت الثقيل، بحيث يؤول الخلاف بين الأهل والأبناء – هذا الخلاف الذي لا بد منه لتجديد الحياة – لا إلى نزاع مدمر بين الأجيال، بل إلى اغتناء متبادل يستفيد فيه الشباب من حكمة الراشدين وخبرتهم ويستفيد الراشدون بالمقابل من حيوية الشباب وتوثبهم.
أسكلة طرابلس ، لبنان، في 19 شباط 1982
كوستي بندلي