مواقف الآباء ومشاكل البنين – منشورات النور – الطبعة الأولى – 1981

mjoa Friday September 26, 2008 284

maoukef elabeهذا الكتاب حصيلة خبرة ودراسة. أما الخبرة، فهي من جهة خبرة والدية عاشها المؤلف ولا يزال مع ثلاث بنين له تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والتاسعة. ومن جهة أخرى، خبرة اتصال طويل بالشباب وحوار معهم، إفراديًا وجماعيا، إن في حقل التعليم من رسمي وخاص أو في إحدى حركات الشباب، وقد سمحت هذه الخبرة للمؤلف بإدراك الأهمية البالغة التي ترتديها العلاقة بالوالدين في خبرة الشباب النفسية . تضاف إلى ذلك خبرة اتصال بالوالدين، سواء من خلال استشارات فردية تتعلق بأوضاع أحد أولادهم، أو من خلال ندوات نظمت المدارس معظمها وأتيح فيها للمؤلف أن يتفاعل مع هواجس وتساؤلات الآباء والأمهات. أما الدراسة فهي تخصص في علم النفس مع تركيز على علاقة الولد بوالديه، خاصة في ضوء معطيات التحليل النفسي، وقد درّس المؤلف هذه العلاقات وتطورها عبر مراحل الطفولة، في إطار تدريسه لعلم النفس في مدرسة الآداب العليا (التابعة لجامعة ليون) بين سنة 1962 وسنة 1969، واتخذ منها مادة لرسالة دكتوراه دولة هو الآن بصدد مناقشتها أمام جامعة ليون الثالثة .

.

أما الغرض الأساسي من الكتاب فهو مساعدة الوالدين على مواجهة مسؤولياتهم التربوية الجسام. والكاتب يعرف مدى افتقاد مجتمعنا إلى مثل هذه المساعدة، ويدرك ما يساور الوالدين فيه من قلق، وهم متروكون لأنفسهم يواجهون بمفردهم المشاكل التربوية التي تزداد تأزمًا في مجتمع مخضرم كالذي نحيا فيه، تتصارع فيه الأنماط التقليدية والأنماط المستحدثة، وتتفاقم حدتها في بلد كلبنان بتأثير الحوادث المأساوية التي عاشها ولا يزال يعاني من رواسبها وانعكاساتها.

إن القلق الناجم عن الأوضاع التي ذكرناها قد يدفع الأهل إلى المطالبة بحلول تربوية جاهزة يمكن تطبيقها بشكل آلي على المشاكل الراهنة التي يتعرض لها أولادهم، ولكن الكتاب لن يعطي مثل تلك الحلول، لأنها غير موجودة ولأن لا شيء يغني عن المواجهة الشخصية لكل وضع بخصوصياته وفرادته، إنما سيكتفي بتقديم توجيهات عامة تصلح لمواجهة تلك المشاكل. والأهم من ذلك أنه يحاول مساعدة الأهل على تفهم المعاني الكامنة في مشاكل أبنائهم، أي ما يقصد الولد، بصورة لا شعورية في كثير من الأحوال، أن يعبر عنه من معاناة ذاتية عبر المشكلة التي يشكو منها والداه. هذا بنظري المفتاح الأساسي الذي يسمح بفهم المشكلة وبالتالي بمواجهتها بشكل سليم. فالمشكلة هي إلى حد ما لغة بها يعبّر ولدنا عن تأزم في نفسه ويحاول أن يخاطبنا وأن ينقل إلينا رسالة ونداء. المهم أن نحاول فهم هذه اللغة الخفية وفكّ رموزها. محبتنا الوالدية عنصر أساسي من عناصر هذا التفهم لأنها تمكننا من التحسس إلى أبعد حد لحاجات أولادنا ومشاعرهم، شرط أن نقف منهم موقف الإنصات المتعاطف. ولكن محبتنا هذه تستنير بحصيلة ما توصّل إليه علم النفس الحديث عبر استقصاء طويل، وبنوع خاص بما كشفه لنا التحليل النفسي عن المعاني الكامنة في كافة مظاهر سلوك الأولاد، حتى ما بدا منها عبثياً لأول وهلة. جلّ ما يطمح إليه هذا الكتاب هو مساعدة الأهل على اتخاذ هذا الموقف المتفهم الذي يحاول جاهداً تخطي المظاهر، مهما كانت مقلقة أو مزعجة، للنفاذ إلى قلب المشكلة، إلى تلك المعاناة الحميمة التي تتكشف في تلك المظاهر وتحتجب وراءها بآن معًا. إن موقفاً من هذا النوع، في حال توفره، لا يساعد على مواجهة المشاكل المذكورة في هذا الكتاب وحسب، إنما يتعداها إلى أية مشكلة قد تحصل، لا بل إنه يصبح، أكثر من ذلك، نمطاً عاماً للسلوك الوالدي، نمط إصغاء حقيقي، متعاطف، متفهم، من شأنه، إذا ساد، لا أن يساعد على حل مشاكل الولد وحسب، بل على تجنبها قدر المستطاع أو التلطيف من حدتها والتخفيف من وطأتها واختزال مدتها إذا حصلت.

فإذا شئنا تلخيص ما يدعو إليه هذا الكتاب، جملناه بما يلي: أن نتساءل، أمام كل مشكلة تصدر عن أولادنا: ما الذي يسعى ولدي إلى التعبير عنه، وإن بشكل غامض وأرعن، من خلال سلوكه هذا؟ ما الذي يقصد، ربما من حيث لا يدري، أن يقوله لي ويفهمني إياه، عبر تلك التصرفات التي قد تبدو لي- وقد نسيت طفولتي- غريبة، مزعجة، مقلقة؟ إن الأجوبة التي يقدمها الكتاب عن مثل هذه التساؤلات ليست سوى أطر عامة يمكن للأهل أن يستلهموها في محاولة تفهمهم للوضع الفريد الذي يعيشه ولدهم بشخصيته المتميزة في ظروف لها أيضاً طابعها المميز وانطلاقاً من خصائص عمره. المهم أن يُطرح السؤال بعمق وإخلاص، عند ذاك فقد يجد الوالدون في الكتاب عناصر للإجابة عنه، خاصة إذا شاؤوا أن يتابعوا البحث بأنفسهم بالرجوع إلى بعض المراجع التي يذكرها الكتاب أو إلى ما شاكلها.

وفي حال الطرح الجدّي للسؤال المذكور أعلاه، لا بدّ وأن يكتشف الأهل أن ما يعبر عنه الولد من معاناة من خلال مشكلته، إنما يعنيهم أيضًا شخصياً. فمعاناة الولد علائقية دائماً، أي أنها مرتبطة بعلاقته بمحيطه (والمحيط العائلي محوري بالنسبة إليه، وتزداد محوريته مع تناقص عمر الولد)، والوالدون هم بالتالي، من حيث يدرون أو لا يدرون، طرف في هذه المعاناة. إنهم، بعبارة أخرى، طرف في المشكلة، فمشكلة الولد ليست مشكلته وحده، إنها مشكلة علاقته بمحيطه، وبنوع أخص بمحيطه العائلي وبقطبي هذا المحيط اللذين هما الوالدان. مشكلة الولد إذاً مؤشر لاِضطراب في علاقته بمحيطه، وبنوع أخص في علاقته بوالديه. إنها من هذا القبيل مرآة للوالدين تكشف لهم المعاني التي تتخذها في وجدان ولدهم المواقف الصادرة عنهم، سواءً أعبّروا عن هذه المواقف بأقوال وأفعال صريحة أو لم يعبّروا. وقد يتضح للوالدين أحياناً، من ردود فعل ولدهم، أن هذا قد فهم أحد مواقفهم على خلاف ما كانوا يقصدون، مؤوّلاً إياه وفقاً لمشاعره الذاتية ومآزمه. لا بأس، فهذا ما يسمح لهم بالتعرف عن كثب على هذه المشاعر والمآزم، وبمواجهتها بما يناسب من رعاية، كما أنه قد يكشف لهم وراء قصدهم الواعي مشاعر لا واعية التقطها الولد بحدسه المرهف وعكسها لهم اضطراباً في سلوكه. من هنا كان عنوان هذا الكتاب: “مواقف الآباء ومشاكل البنين”، إشارة إلى الإرتباط الوثيق القائم بين هذه وتلك .

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share