هذا الكتاب يجمع مداخلات ألقيت أصلاً- واستعيدت هنا بتوسّع- في اجتماعات “ندوة الثلاثاء”، وهي ندوة تعقد، منذ منتصف العام 1981، في بيت حركة الشبيبة الأرثوذكسية في طرابلس – الميناء، للتداول في مواضيع متنوعة تدور حول العلاقة بين الإيمان من جهة، وكافة قضايا الفكر والحياة من جهة أخرى، وهي مواضيع يطرحها الشباب بحرية. ويشاركون في الإجابة عما تطرحه من تساؤلات.
المقالات التي يحويها الكتاب تتمحور، على اختلافها، حول موضوع رئيسي تستمد منه الوحدة العميقة التي تجمع بينها، وهو الموضوع الذي يعبّر عنه العنوان: “المحبة والعدالة والعنف”. والعنف يشغل فيها مركز الصدارة الذي لا يزال يحتله، للأسف، في عالمنا، الذي لم يصبح بعد، رغم كل تطوره التكنولوجي، عالـمًا إنسانيًا بالمعنى الصحيح. ويبرز العنف في الكتاب بأشكال متنوعة هي على شاكلة الوجوه المختلفة التي يتخذها في الحياة. فمنها عنف الإجرام الفردي، الذي قد تذكيه خلفية طائفية. ومنها العدوان المسلح الذي يشنه جيش دولة مغتصبة على شعب مستضعف. ومنها العنف المسجّل في الهيكليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إن على صعيد محلي أو على صعيد عالمي – والصعيدان مترابطان- وهو عنف قد لا يتخذ طابعًا دمويًا ولكنه أكثر ازهاقًا للأرواح من أشرس الحروب، كما يثبت الرقم المريع لعدد الذين يقضون حتفهم من الجوع سنويًا في تلك المناطق الواسعة من العالم التي تحكم عليها، لا الطبيعة كما قد يُظنّ، بل نظام جائر في توزيع الموارد، بالبؤس والتخلف والمرض والجهل. ومنها عنف القمع الذي يمارسه المجتمع على الذين يخلّون بأمنه فيقضي على المجرم بإعدامه، غير آبه للأسباب الكامنة وراء ظاهرة الإجرام، لأن مواجهة تلك الأسباب من شأنها أن تقوده حتمًا إلى إعادة النظر في مواقفه وهيكلياته. ومنها عنف الاقتتال الطائفي الذي شهدته الحرب اللبنانية، وما يكمن وراءه، من عصبيات متشنجة وصراع على النفوذ الفئوي، وما أدى إليه من ويلات ودمار لبلد أصبح مهددًا في وجوده من جرّاء تصارع الطوائف فيه على الحكم والمغانم. هذا الشكل الأخير من العنف، الذي يخيّم شبحه الرهيب على الفصل الختامي من الكتاب، قد يكون أشد الأشكال بشاعة وضراوة لأنه ينطلق من خلط كفري تنزلق إليه الجماعة الدينية، بينها وبين إلهها، وبين أهوائها وإرادته، بين عزتها وعليائه، مما يسمح باتخاذ الله نفسه ذريعة لتبرير، لا بل لتقديس، أشرّ ما تفرزه النفس البشرية من شهوات القتل والتدمير.
في مواجهة العنف – الذي يجمع بين مختلف أشكاله قاسم مشترك واحد ألا وهو الاستخفاف بوجود الآخر، فردًا كان أو جماعة، والتضحية به، ماديًا أو معنويًا أو الاثنين معا، علي مذبح العدوان والنهب والهيمنة والاستئثار، سواء تجلت كل هذه بشكلها الفظّ أو اتخذت لنفسها شتى التغطيات والتبريرات، متذرعة بالمصلحة القومية أو النظام أو القانون أو … الدين نفسه – في مواجهة ذلك العنف المتعدد الوجوه والذرائع، تنتصب المحبة التي هي نقيضه وخصمه وترياقه. والمحبة التي نتحدث عنها هنا وفي هذا الكتاب، المحبة بمعناها الإنجيلي – الذي يتماثل، باعتقادنا، مع معناها الإنساني الأصيل- المحبة هذه هي ليست مجرد عواطف ومشاعر تشيع في النفس رقة وعذوبة ولكنها تبقى عاجزة عن مجابهة قسوة الواقع وعن إحداث تغيير ملموس في مجرياته وبناه. المحبة التي نعنيها موقف يتعدى الشعور الصرف إلى موقف متكامل للشخصية يجمع بين الذهن والحس والإرادة ويتجلى في إقامة وزن للآخر لا يقلّ أهمية عن الوزن الذي نعطيه لذواتنا، وفي الاصرار على التعامل معه على هذا الأساس، بحيث يغدو مستحيلاً علينا أن نستخفّ بآرائه لنعلّي آراءنا، وأن نستبيح مصالحه خدمة لمصالحنا، وأن نهدر كرامته تعزيزًا لكرامتنا، وأن نعتدي على حياته تنفيذًا لأغراضنا، لا بل بحيث يصبح بقاؤه وكرامته ونموه وانتعاشه هدفًا يضاهي بأهميته في نظرنا ما نبغيه نحن لأنفسنا من خير وتقدم ورقيّ وسعادة. علمًا بأن موقف المحبة هذا لا يعزز إنسانية الآخر وحسب، إنما يعزز بآن إنسانيتنا نحن، بالضبط لأنه ينقذها من تلك القوقعة التي إن إنحبست فيها، ذبلت وجفت واختنقت معنويًا، ولو ملكت يدانا الدنيا وما فيها، ويفتحها على رحاب الوجود الإنساني بكل سعته وعمقه وأصالته وغناه. فمن منح الحياة لسواه، تأججت الحياة فيه – الحياة بمعناها الإنساني الأصيل، لا مجرد الفورة الحيوية الغاشمة – وتألقت وانطلقت وأثمرت وتجددت. أما من حجبها عن الآخر ليحتكرها لنفسه، فإنها تخمد فيه وتخبو ويعتريها العقم والجمود. تلك هي مفارقة الإنجيل: من بذل حياته وجدها، ومن تشبث بها ببخل فقدها.
مقياس المحبة هو إذًا إطلالها على الآخر واهتمامها به بحد ذاته ومن أجل ذاته، لا لمجرد أغراضنا وهواجسنا ومصالحنا. مما يعني أن لا محبة حقة دون اعتبار لغيرية altérité الآخر، لاختلافه عني، ودون قبولي له بهذه الصفة وتعاملي معه على هذا الأساس. معيار المحبة الحقة هو، بعبارة أخرى، أن أتخطى حدود ذاتي وحدود جماعتي (التي هي بمعنى من المعاني امتداد وتضخيم لذاتي) لألاقي الآخر – فردًا وجماعة – في فرادته واختلافه. بدون ذلك لا أكون قد بلغت المحبة بعد، ولو خُيّل إليَّ ذلك. لأنني أكون ما زلت أسير ذاتي وهواجسها، مختزلاً الآخر فيما يشبهني به أو فيما أنتظره منه من مكاسب، غير آبه لغيريّته – التي وحدها تنتزعني من قوقعة ذاتي – ومغيّبًا لفرادته. هذا النمط من “المحبة” يبطن بالحقيقة عنفًا، لأنه اغتيال للآخر من حيث هو آخر واحتواءٌ وتذويبٌ له في ذاتي. من هنا فإن معيار تحرر المحبة من قيود الذات وانفتاحها الفعلي على الآخر من أجل ذاته، إنما هو قدرتها على أن تصبح محبة للأعداء حسب دعوة الإنجيل. لأن “العدو” هو بالضبط ذلك الإنسان – أو تلك الجماعة- الذي يبلغ فيه اختلاف الآخر عني ذروته. لأنه ذلك الآخر الذي ليس بوسعي، بحال من الأحوال، أن أحتويه، وأن أعتبره صورة عني وصدى لرغائبي، إذ هو تحديدًا ذلك الذي يعارض مشاريعي ويخالف توجهاتي ويتصدى لمصالحي. إستعدادي لمحبة “العدو” إنما هو إذًا مؤشر تحرر محبتي ونضجها وبلوغها ملء قامتها الإنسانية: “فإن أحببتم من يحبكم، فأي أجر لكم؟ أليس العشارون يفعلون ذلك؟ (…) فكونوا أنتم كاملين…” (مت 5: 46و47). لا بل، كما يقول المفكر واللاهوتي الأرثوذكسي المعاصر أوليفيه كليمان، إن كل إنسان أتعامل معه فعلاً على أنه آخر يصبح بمعنى من المعاني بمثابة “عدو” لي لأنه يضطرني إلى الإنسلاخ عن محدودية ذاتي: “الآخر – يقول هذا الكاتب – هو دومًا عدوي، طالما أنه لا يسعني أن أكتشفه بالحقيقة إلا إذا متّ عن ذاتي” . هنا تحضرني عبارة “جان بول سارتر” الشهيرة “الجحيم هو الآخرون”. يُروى أنه بينما كان الفيلسوف الوجودي المسيحي “غبريال مرسيل” يشاهد مسرحية Huis Clos التي وردت فيها هذه العبارة، سمعه بعض من كانوا إلى جانبه يتمتم: “كلا، الجنة هي الآخرون”. والعبارتان لا تتعارضان إلا في الظاهر، إذ أنني بعبوري ما هو “جحيم” لذاتي الضعيفة أبلغ إلى نعيم ذاتي الرحبة الأصيلة.