“في لبنان انتصرت الحرب وخسرنا الإنسان. الإنسان في هذا المجتمع مخيّر بين ثلاثة: أما أن يقاتل في سبيل قضية أو معتقد ما، وأما أن يبقى حياديًا ويبحث عن مستقبله، وإما أن يسافر إلى الخارج. ما هو دور الإنسان المسيحي الأرثوذكسي المؤمن بمعتقده ووطنه، الذي يمكن أن يؤدّيه؟”.
هذا السؤال، المفعم بقلق الشباب، يرسم صورة الوضع المأساوي الذي يتخبط فيه بلدنا، وما يفرزه هذا الوضع من حَيرة وضياع. وفي الفترة التي كنت استعدّ فيها لمعالجته مع الشباب في احدى ندوات الثلاثاء، وقع تحت نظري مقال لإلياس خوري لمست فيه نفس القلق الذي يحمله السؤال، كما أنني وجدت فيه بعض عناصر الإجابة عنه. واليكم فقرات من هذا المقال:
“…. لا شيء يربطنا بالمنعطف الحربيّ الذي حوّل المجتمع إلى غيتوات مغلقة، والأرض إلى حدود مرسومة بالمذابح…. لا شيء، لا شيء، لكننا في السفينة ولن نغادرها. سفينة وحيدة متسكعة وبائسة، تعوم على غير هدى، ورياح الحرب تضربها من كل جانب. والحرب تدور على نفسها في نقطة الفراغ.
(…)
من نحن، ولماذا نقبل، وكيف جرى كل هذا؟ ونكتشف اننا، رغم كوننا لا نعرف الأجوبة، مشدودون إلى هذه السفينة ولا نستطيع مغادرتها، انها علامتنا الوحيدة في عالم عربيّ فقد أو يكاد جميع علاماته، انها بحرنا، وسط بحور الضياع التي لا تقود الا إلى غربة مضاعفة.
(…)
نعيش كالغرباء. نكتشف كيف نكون غرباء في بيوتنا وشوارعنا وأماكن عملنا. نكتشف الغربة في عيون الآخرين، كل واحد غريب في حرب تُشنّ على الجميع وبواسطة الجميع. لكنها غربتنا نحن، انها غربة صنعها جهلنا ونظامنا الفاسد وعقلنا الميت. وعلاج هذه الغربة لا يكون بالهرب منها.
فالهرب منها يقود إلى غربة مزدوجة. تكون غريبًا عن مدينتك وغريبًا في مدن الآخرين (…)
(…)
إن الصراع الحقيقيّ ليس صراعًا على نتف السلطة الطوائفية المنهارة، بل هو صراع المنطقة العربية مع أمراضها وأعدائها. هذا هو الصراع الذي يعيدنا إلى شيء من رائحة المعنى (….) المعنى الذي فقدناه بعد رقصة الطوائف على أشلاء لبنان…”.
(الياس خوري: حطام السفينة، “السفير”. 18/10/1986، ص 9).