ها كتاب توخّى صاحبه، لمّا جمع مواده ونشرها للمرة الأولى (1983)، أن يصنع، في خضمّ الحرب الأهلية اللبنانية، مدماكًا في عمارة تخطّي العقدة الكأداء التي ينوء بها مجتمعنا، أعني الطائفيّة. أيّ طائفيّة يرمي كوستي بندلي إلى شجبها هنا؟ السؤال يقتضي محاولة صوغ جواب، ولو مقتضب. فثمّة ظاهرة ألفناها بعد انتهاء حرب لبنان، التي لم ينتهِ بعض أسبابها، هي التنطّح للدفاع عن ضرب من الطائفيّة بوصفه ضامنًا السلام السياسيّ في هذا البلد. الطائفيّة التي يفضحها هذا الكتاب هي التي، على المستوى الفرديّ، لا تعترف بالإنسان موجودًا في نظر الدولة ما لم ينتمِ إلى واحدة من الجماعات الدينيّة “المرخّص” لها. وذاك بصرف النظر عن اقتناعه بمبادئ هذه الجماعة ولكون انخراطه فيها فُرض عليه بسبب ولادة في عائلة لم يتحكّم بها أصلاً. والطائفيّة التي يمجّها هذا المؤلَّف هي التي، على الصعيد الجماعيّ، تزكّي كيانات اجتماعية قوامها انتماء دينيّ هشّ، بل صوريّ أحيانًا، وتجعلها كتلاً يقوم التوازن السياسيّ على توافقها. فتضحي هذه الكتل المعبر الضروريّ لأيّ حقّ بالممارسة السياسيّة. ولئلاَّ يقع بعضنا في الماسوشيّة، أي تعذيب الذات، محتسبًا أنّ الطائفيّة سمة المجتمع اللبنانيّ وحده من دون بعض المجتمعات العربيّة الأخرى، نقول: الطائفية التي يقارعها بندلي هنا هي، في نهاية المطاف، موقف عقليّ وروحيّ جوهره تمجيد الذات الجماعيّة على حساب الآخر بالاستناد إلى قرينة الانتماء الدينيّ. وهذا ما فتئ منغرسًا في تركيبة الإنسان العربيّ العقليّة ومنتشبًا في تربة وعيه في غير مكان، ما يجعل هذه السطور تتعدّى النطاق اللبنانيّ، وإن تكن التجربة اللبنانيّة سبب نشأتها المباشر.
ولا مناص هنا من استعادة تاريخيّة قصيرة تحاول تبيّن بعض جذور الطائفية في مشرقنا. تتأصل ظاهرة الطائفيّة في نمط من التنظيم المجتمعيّ سابق للحداثة يقدّم الانتماء الجماعيّ على الوجود الفرديّ. وقد عبّر هذا النظام عن ذاته خلال الحقبة العثمانية خصوصًا عبر نظام الملل الذي نظرت الدولة العثمانيّة بموجبه إلى عدد من رعاياها، ولا سيّما المسيحيّون واليهود، لا انطلاقًا من حقوقهم الفرديّة، بل بالاستناد إلى تلك الممنوحة للجماعات التي ينتمون إليها. والحقّ أنّ مثل هذا النظام الذي اعترف للملل بغيريّتها حيال الإسلام الحاكم ورسّم لها حدودها بإزاء المجموعات الأخرى أشعر الناس بالطمأنينة فتفاعلوا وتقاربوا في العادات وطرائق العيش واللغة. بيد أنّ انبلاج الحداثة في اوروبا بعد الثورة الفرنسيّة خلق نسقًا جديدًا من علاقة الإنسان بالدولة لا يحتكم إلى إنتماء الفرد إلى جماعة، بل إلى حقوقه وواجباته أمام المجتمع بوصفه مواطنًا فردًا. وقد استوردت الشعوب العربيّة هذا النموذج الأوروبيّ بعد انهيار السلطنة العثمانيّة. وكانت تُكتب له فرص النجاح، لو أفلحت هذه الدول في إحقاق العدل الاجتماعيّ، بحيث يستشعر كل امرئ أنّه قادر على التماهي بدولته، فلا يحنّ إلى أيّام كانت مجموعته الدينيّة تؤمّن له حقوقه. بيد أنّ خبوّ الجماعة الدينيّة من حيث مفهومها الحقوقيّ، من جهة، وفشل نظام المواطنة في المشرق بسبب العسف وقلّة العدل الاجتماعيّ، من جهة أخرى، خلقا ضربًا من أزمة هويّة لدى الأفراد. فما كان من الكثر إلاّ الارتداد إلى المجموعة الدينيّة في مفهومها السوسيولوجيّ ونبش كلّ ما يميّزها، كما هو حال بعض أقباط مصر اليوم. في لبنان، طبعًا، الوضع معقّد أكثر، ما يجعل صواب هذا التحليل جزئيًا فقط. فالنظام الذي قام في ظلّ الانتداب وبعده نظام هجين لكونه يتّخذ النموذج الحديث عبر مناداته بالمواطنة من جهة. غير أنّه لا يعترف، من جهة أخرى، بمواطنيّة الفرد إلاّ إذا انتمى إلى مجموعة دينيّة في المنظور السوسيولوجيّ، أي إلى طائفة. ولقد وعى “آباء” الكيان اللبنانيّ هذا التناقض. فعدّوا أنّ النظام الهجين إنّما هو حلّ مؤقّت. بيد أن الفشل في بناء دولة حديثة قوامها العدل تحلّ محلّ الطائفة، بوصفها للفرد نموذجَ تماه ومنبعَ توازن ومكانًا يضمن الحقوق، أمسى يحيل كثيرين إلى طوائفهم على حساب الدولة. فاللواذ بالطائفة أثبت صدقيّته في التاريخ. ومعظمنا بات لا يثق بأيّ نموذج آخر. بذا تستبين أزمة الطائفيّة في لبنان، على مستوى النظام، صراعًا بين مفهوم للدولة حديث وآخر تقليديّ. أمّا على مستوى الأفراد والجماعات فتتبدّى هذه الأزمة تضخّمًا للكيان السوسيولوجيّ المرتكز على الانتماء الدينيّ، ما يستتلي، في غالبيّة الأحيان، إنقاص الآخر والطعن به وصولاً إلى إقصائه أحيانًا. الطائفية إذًا، مأزق روحيّ على قدر ما هي خلل سياسيّ وقانونيّ.
يترجح بندلي في تفنيده قبائح الطائفية بين هذين البعدين، وإن كانت المركّبة الروحيّة تستوقفه أكثر لكونه يحاول موقفًا “إيمانيّا ” من وجهة نظر مسيحيّة. وهو، في هذا، لا يعرض عن مخاطبة المسلمين، بل يتوجّه إليهم مباشرةً مستكشفًا مدارج التلاقي ومستجليًا إمكان مقاربة مسيحيّة – إسلاميّة مشتركة للمعضلة الطائفيّة.هذه السطور التي خطّها الكاتب بين العامين 1967 و1975، أي قبل حرب لبنان وفيها، تبيّن التجربة أنّها لم تفقد اليوم ذرّة من آنيّتها. فبعد انهيار “المعجزة اللبنانيّة”، يتبختر اليوم منظّرو الطائفيّة من جديد مجيّرين لها صفة “الإعجاز” لكونها أبرز “اختراع” سجّلته العبقريّة السياسيّة اللبنانيّة باسمها. والردّة الدينيّة المغالية التي تلمّس بندلي بحدسه الثاقب أولى إرهاصاتها العام 1982 (راجع مقدّمة الطبعة الأولى، 22- 26) آخذة بالتوطّد بحيث أمسى اللجؤ إلى الدينّي، بالنسبة إلى كثيرين، تعويضًا عن فشل المشروع السياسيّ. والأصوات التي تنشد لازمة “إلغاء الطائفيّة من النفوس قبل إلغائها من النصوص” تكثّفت أنغامها غير عابئة بما أشار إليه العقلاء منذ الستّينات، وبندلي في طليعتهم، أنّ جهد العقل وميل القلب يتهذّبان بمستقيم النصوص القانونيّة وأن إصلاح القوانين منطلقه فكر ينتحي الخلق الكريم وقلب ينفتح على الآخر. ولأنّ معظم الآفات التي حلّلها بندلي وهتك حجبها في موقفه هذا ما برحت تقضّ مضاجعنا في لبنان خصوصًا والمشرق العربيّ عمومًا فإنّ ظهور الكتاب في طبعة ثانية كان ضروريًا. القارئ، إذًا، على موعد، في هذه الصفحات القليلة نسبيًا، مع فضح جمٍّ من العلل الجاثمة في مطاوي ذاتنا الفرديّة والجماعيّة وثنايا مجتمعنا وزوايا مؤسّساتنا الدينية، كأنّ الكتاب خرج اليوم من تحت قلم واضعه.
أخيرًا، لا تنحصر آنيّة السطور التي نطلّ عليها في أن الطائفيّة باتت أكثر إنغراسًا وأعمق أثرًا وأوسع حيلة. فالكتاب، منشورًا اليوم، دعوة إلى أن نواجه ماضينا ونتفحّص بالنقد تاريخنا، هذه المهمة التي أغفلناها، وخصوصًا منذ وَضعت الحرب “المعلنة” في لبنان أوزارها، وما زلنا نصدّ عنها. فالحرب الأهليّة في لبنان لم تكن مجرّد برهان على هشاشة النظام السياسيّ في هذا البلد وعاقبة الاستهانة بالقانون فيه، بل منها يُستدلّ أيضًا على سقوط مشروع الحداثة العربيّة، كما ذهب إليه الياس خوري. نحن شعوب “مراهقة” لأنّها لا تحسن إعمال العقل في الماضي، فتتفحّصه وتستذكره وتستخرج عبره وتجهد في إنضاج الوعي الجماعيّ به. ولا غرو، بإزاء حال كهذه، أنّنا ما زلنا نجترّ الخرافات ونسمّيها تاريخًا تاركين ترتيب الحاضر واستشراف المستقبل لنزق الارتجال وطيش الانفعال. إنساننا “تفتك فيه سكونيّة بليدة تسطّحه يزكّيها بجبريّة إلهيّة عمياء يعطّي بها جهله الواقع وينتدب الألوهة لتعرف عنه كلّ شيء” (جورج خضر). من هنا، يتبدّى كتاب بندلي هذا حضًّا على الاعتراف بأخطاء الماضي عوض إلقاء اللوم على الأجنبيّ، سواء كان مستعمرًا أو مستشرقًا أو سائحًا يسرق المخطوطات. والكتاب يستحثّنا على إلقاء البال إلى أنّ الحاضر في طائفيّته المسرفة دليل على بلادة حركتنا في ممرّات الزمن؛ بلادة قد توحي بأنّ الكثير لم يتغيّر البتّة على مدى بضعة مئات من السنين. فإذا بنا نركن إلى الطائفة وننتفخ بها اليوم كما قبل حرب لبنان والعراق وسائر الحروب الأخرى. ألسنا نتاجر اليوم بإفراط كما تاجرنا قبل “ستّة آلاف سنة”؟ ألسنا نقطع الغابات جشعًا كما قطعناها على مرّ التاريخ لنسترزق بها؟
إنّ كوستي بندلي، في موقفه الإيمانيّ من الطائفيّة، يطلّ على الحاضر بكلمة من الماضي لم تفقد بعد معناها، بل لعلّه تكثّف. قد يذهب المرء إلى أن هذه صفة الكلاسيكيّ الذي لا يموت. غير أنّ المؤلّف لم يرد لكلماته إلاَّ أن تكون مهمازًا يقع به حصان المجتمع إلى رحاب الانعتاق من التقوقع الطائفيّ وولوج فضاء الآخر بلا استكبار وتجريح وتشويه. لعمري، هذا كنه الإنجيل يبسطه على تجدّد فكر اغترف منه حتّى يداوي الإنسان. إنّ من تتلمذ على الإنجيل يرشدنا إلى نفحات الكتاب الشريف التي لا تموت…
أسعد قطّان
بيروت 28/3/2004