إننا ننتظر بشوق هذه المناسبة السنوية السعيدة التي تتيح لنا الاجتماع بكم مشتركين وإياكم باهتمام واحد ألا وهو الاهتمام بأولادكم الذين نسمح لأنفسنا أن نسميهم – إلى حد ما- أولادنا أيضًا لأنكم شئتم أن تسلّمونا إياهم واضعين بنا ثقة غالية نجتهد أن نكون بها جديرين. في هذه الأمسية ومثيلاتها في كل عام اعتدنا أن نقدّم لكم بعض إنتاج أولادكم من تمثيل وإنشاد لتتعرفوا ببعض مظاهر عملنا التربوي وتفرحوا باكتشافكم عند فلذات أكبادكم مواهب ربما لم تحلموا بها، ولكي يفرح أولادكم أيضًا بتقديمهم أفضل ما عندهم، ثمرة جهودهم وأتعابهم، هدية حب لكم يا من شملتموهم منذ فجر حياتهم ولا تزالون بفيض من الحب والحنان.
وفي جو الفرح هذا الذي يغمرنا، لا يسعنا إلا أن نسمو بالروح إلى ذاك الذي أضفى على علاقات الوالدين بأولادهم طابعًا من الحنان والعطف والتضحية لم تكن الغريزة وحدها قادرة على بلوغه. لقد كان الطفل في العالم القديم المتعبد للقوة محتقَرًا مهانًا لأنه صغير وضعيف، ولذا كان الأطفال النحيلو الأجسام يقتلون في سبارطة منذ مولدهم، وكانت الأمهات الفينيقيات يحرقن أطفالهن على ذراعي الإله الوحشي مولوخ، وكم من مرة اكتشف علماء الآثار عند تنقيبهم عن مدن بائدة هيكلاً عظميًا صغيرًا دُفن تحت حجر الأساس في الأسوار وهو هيكل طفل بريء ضحّي به عند تشييد المدينة تيمنًا. هذه حالة العالم القديم إلى أن بزغ ذلك الذي ولد الرفق بمولده كما قال الشاعر، ذاك الذي قلب المقاييس البشرية رأسًا على عقب إذ جعل العظمة الفائقة الوصف، عظمة الألوهة التي أمامها تتلاشى كل عظمة، تتجلى في أحقر المظاهر، إذ وُلد وهو ابن الله في مذود حقير مضيفًا إلى ضعف الطفولة وتابعيتها عجز الفقر والحرمان. فلم يعد العالم يستطيع أن ينظر إلى الطفل إلا من خلال وجه ذاك الطفل الإلهي وأصبح البشر يقفون خاشعين أمام ضعف الطفولة وسرّها تذكارًا لضعف مولود بيت لحم وللسرّ الفائق الإدراك الذي كان كامنًا فيه، وأصبحت كل أم عندما تضم طفلها إلى صدرها تشترك إلى حد ما بفرح مريم، لأن كل طفل مدعو أن يصبح بالمعمودية صورة حيّة ليسوع، حاملاً في جسمه النحيل طاقة من الحياة الإلهية تفوق تصورنا.
من الرب يسوع تعلّمنا إذًا ليس أن نحبّ الطفل وحسب بل أن نحترمه أيضًا ولا محبة حقيقية بدون احترام. ومن هنا ينتج أنه ينبغي لنا أن لا نفرض على الطفل أن يكون صورة مصغَّرة عنا بل أن نقبله كما هو، أي أن نقبله طفلاً، مجتهدين أن نرتقي به تدريجيًا، بكل تأنٍّ وصبر، انطلاقًا من هذا الوضع الراهن. لقد أثبت علم النفس الحديث أن الطفل ليس هو بشكل من الأشكال صورة مصغَّرة عن البالغ، إنما هو كائن قائم بذاته له عقليته الخاصة وشعوره الخاص وتصوراته الخاصة، أضف إلى ذلك أنه كائن في تطور مستمر لا يستقر في وضع من الأوضاع بل يتجاوزه سريعًا إلى وضع آخر ومرحلة أخرى من نموّه. ولذا فالطفل مزعج إلى حد ما لأنه يصدم دومًا أفكارنا وعاداتنا نحن البالغين وحبّنا للاستقرار والهدوء. الطفل مزعج لأن تصرفاته تحيرنا، لأنه ينتزعنا من عالمنا المألوف وعاداتنا المحبوبة لينقلنا إلى عالمه هذا الذي لم نعد نألفه لأننا قد نسينا طفولتنا. ولكن حذار أن نحاول صبّ الطفل في قالبنا نحن البالغين، غير مكترثين لحاجاته وذهنيته الخاصة، إذ بذلك نعرقل ونشوّه نموّه.
فالقاعدة الكبرى في التربية هي الصبر والتأني، هي التفهّم لعقلية الطفل مهما اختلفت عن عقليتنا لنتمكن هكذا من إيقاظ القوى الخيّرة الغنية الكائنة فيه. والصبر والتفهّم ينتجان عن المحبة والاحترام اللذين أوحى بهما لنا الرب يسوع نحو الأطفال إذ ظهر في البدء كواحد منهم وطلب منا بعدئذ أن ندعهم يأتون إليه. وهنا نلتقي بمعنى هذا العيد الذي نقيمه اليوم. لقد اختارت منظمات الطفولة يوم التاسع والعشرين من كانون الأول عيدًا لها لأن الكنيسة الأرثوذكسية تقيم في هذا اليوم ذكرى أطفال بيت لحم وضواحيها الذين قتلوا بأمر هيرودس فماتوا عن المسيح الذي كان آتيًا ليبذل نفسه عن البشر. هؤلاء ماتوا عن المسيح دون أن يعرفوه ودون أن يعوا معنى موتهم الجائر ولكنهم كانوا صورة ومقدمة لكثيرين غيرهم من الأطفال والأحداث كبنات صوفيا وكيريكوس وترسيسيوس وغيرهم الذين، عبر الأجيال، بذلوا حياتهم شهادة ليسوع بوعي ومحبة وإيمان. فالطفل، رغم عدم نضوج شخصيته، رغم تلك الانطوائية القائمة في طبيعته، قادر أن يعطي كثيرًا إذا شعر أنه يُحَبّ. فالحب يستدعي الحب والولد يلبي الدعوة بتلك التلقائية الرائعة التي يمتاز بها. الطفل بحاجة إلى الحب حاجته إلى الطعام والهواء، وقد أثبتت أبحاث علمية حديثة أن العناية بالطفل مهما توفرت وأتقنت لا تعوض عن فقدان الحب وأن حرارة العطف والحنان ضرورية لنموّ الطفل جسديًا وعقليًا. وكثيرًا ما ينكمش الولد على نفسه وتُشلّ قواه العقلية وتخمد حيويته أو يصبح مشاكسًا أو شقيًا لأنه حُرم من الحب، وهذا ما يلقي على المربين وعلى المجتمع بأسره مسؤولية ثقيلة. وبالعكس نجد أن الطفل إذا أُحبّ يقوم أحيانًا بأعمال بديعة مدهشة في سبيل إرضاء محبوبه، وهذا ما يختبره الوالدون والمربون يوميًا. ولذا فنحن في منظمات الطفولة نجتهد أن نكشف للأولاد محبة يسوع العظيمة لكل واحد منهم وأن نجسّدها قدر استطاعتنا في علاقتنا بهم فتزول من مخيلاتهم صورة الإله البعبع الذي يخنق الأطفال ويتحسسون لمعاني الفداء فتستيقظ في نفوسهم بفعل النعمة رغبة صادقة في الجواب على الحب بالحب وعلى البذل بالبذل ونسمع منهم ذلك الجواب الذي سمعه أميننا العام منذ خمسة عشر سنة في هذا الميناء عندما كان يسأل طفلة من فتيات يسوع لها من العمر ست أو سبع سنوات: “لماذا بذل المسيح نفسه عنا؟” فأجابته ذاك الجواب الرائع الذي لم يجبه أعظم اللاهوتيين قائلة: “مات المسيح عنا حتى نموت نحن في سبيله”.
سيداتي، سادتي، لا أودّ أن أطيل عليكم الكلام في هذه الأمسية التي جئتم بها تستمعون إلى أولادكم، ولكنني أودّ قبل أن أختم أن أعبّر لكم باسم إخوتي المسؤولين والمسؤولات في منظمات الطفولة وطلائع النور الذين أشرفوا على تنظيم هذا الاحتفال، أن أعبّر لكم عن رغبتنا العميقة في التعاون الجدّي معكم من حيث الاهتمام بأولادكم الأعزاء جدًا على قلوبنا. إن الاتصال الوثيق المستمر بيننا وبينكم ضروري لنجاح المهمة التربوية التي تقومون ونقوم بها. ولذلك سنجتهد أن يزوركم المسؤولون عن أولادكم ليتحدثوا وإياكم عنهم، فتوضع هكذا أسس تعاون مثمر في خدمة أحبائنا الأولاد. سنطلعكم أكثر فأكثر على أخبار عملنا التربوي ونتائجه ونطلب منكم مقابل ذلك أن لا تضنّوا علينا بملاحظاتكم ورغباتكم وحتى بانتقاداتكم. إن المسؤولين والمسؤولات معظمهم شبان وشابات في مقتبل العمر ولكن الكثيرين منهم قد حصلوا على خبرة طويلة في العمل التربوي الذي بدأوا بممارسته منذ أن تكوّنت شخصيتهم، وكلهم يدرسون ويتدربون ويفكرون ويستمدون من الرب المربي الأوحد الإلهام والقوة. لقد كنت منذ أسبوعين مجتمعًا معهم في هذا البيت لنتباحث في المشاكل التربوية التي تعترضهم ونستمع إلى عرض اختباراتهم في حقل التربية. إن إخوتي هؤلاء يضعون إمكانياتهم في خدمتكم لنصل معًا، متعاونين، إلى تهيئة جيل جديد مؤمن، قوي، نقي، محب به تنتعش كنيستنا المتألمة وتزدهر ويفرح به الربّ في السموات، والسلام.
النور، العددان 1و2، 1960