كيف يواجه الوالدون أزمة كِبر الأولاد؟

mjoa Saturday October 18, 2008 177

 

– “عندما يكبر الأولاد يشعر الأهل أن هدف وجودهم في الحياة بدأ يتزعزع لأن أولادهم أصبحوا مستقلين عنهم (خاصة إذا كان هذا الاستقلال استقلالاً ماديًا).
– يكبر الأولاد ويشعر الأهل انهم بدورهم يكبرون. وبالتالي انهم صائرون إلى الزوال. ما هو العلاج لهذه المشكلة عند الأهل؟”.

.

 

1- مفتاح العلاج إنما هو في نظرة جديدة إلى العلاقة بين الوالدين وأولادهم
المعاناة التي يشير إليها السؤالان المثبتان أعلاه واقعية لا محالة، بشكل أو آخر. إنما يمكن التخفيف كثيرًا من حدّتها والحؤول دون تحوّلها إلى مأساة تحطّم الوالدين، إذا حصل تغيير جذريّ في نظرة هؤلاء إلى علاقتهم بأولادهم. وما اقصده هنا بـ “النظرة” ليس موقفًا ذهنيًا وحسب- من السهل نسبيًا أن يتوفر، ومع ذلك فلا يزال، على ما أعتقد، نادرًا في مجتمعنا- بل موقفًا معاشًا يشمل الكيان كلّه من ذهن وميول ومشاعر وتصرفات. هذه النظرة ينبغي لها، لكي تأتي بكل ثمارها، أن تلازم الوالدين منذ بداية حياتهم الوالدية، لا بل أقول انه ينبغي أن تكون أسسها ومقوماتها متوفرة لديهم منذ الفترة السابقة لإنجاب أولادهم لا بل منذ ما قبل زواجهم. من هنا أهمية التربية التي تلقاها الوالدون في طفولتهم وشبابهم، وأقصد هنا بنوع خاص التربية العاطفية، الانفعالية، التي تتوفر لهم من خلال العلاقات الإنسانية التي يقيمونها، وبنوع خاص تلك التي تجمعهم بوالديهم. ومع ذلك، فالنظرة التي نحن بصددها، وإن تأخر ظهورها نسبيًا، هي قادرة، ولو تعسّر الأمر واكتنفته المصاعب، على تغيير كل مجرى حياة الوالدين والتأثير في نمط تفكيرهم ومشاعرهم.

 

 

 

2- طبيعة هذه النظرة الجديدة: تجاوز ازدواجية الحب الوالديّ
أما طبيعة هذه النظرة فتتضح مما يلي: في الحبّ الوالديّ (كما في كل حبّ) بعدان متلازمان ومتناقضان بآن، مما يضفي على الحب طابعًا صراعيًا لا بدّ من مواجهته والتنبّه إلى مخاطره. فهناك حبّ الآخر من أجل نفسه، أي أن يكون مأربنا ومصدر فرحنا أن نسعى إلى فرحه وتنميته وانشراحه وانطلاقه، وهناك حب الآخر من أجل أنفسنا، أي أن يكون هاجسنا تحقيق حاجاتنا بواسطته ومن خلاله، معتبرين إياه وسيلة لا غاية، مذوّبين إياه في مشاريعنا ورغائبنا، ناظرين إليه كما إلى مجرد امتداد لأنفسنا، وفي أسوأ الاحتمالات كما إلى ملك لنا نتصرف به كما نشاء، غير آبهين لتمايزه وفرادته واستقلاله. كلّ حبّ بشريّ مشدود أبدًا بين هاتين النـزعتين، وهو يقترب من النضج بقدر ما يتمكن من تغليب الأولى، بحيث تلطّف الثانية وتهذّبها وتصقلها وتوجهها دون أن تلغيها، فيصبح السعي إلى إشباع حاجاتنا الذاتية مرتبطًا بالسعي إلى إشباع حاجات المحبوب ومنسجمًا معه لا بل مانحًا إياه الأولوية.

 

 

الصراع بين النـزعتين اللتين نحن بصددهما محتدم بنوع خاص في الحب الوالديّ، وذلك من جرّاء الطابع الحميم جدًا الذي يتميز به ذلك الحب. فالرباط الذي يجمع الوالدَين بولدهما رباط فريد، لأن الولد ثمرة حبهما وتجسيده الحيّ، ولأنهما أنجباه معًا (وقد حملته الأم تسعة أشهر لم يكن خلالها يتميز عنها بل كان جزءًا حميمًا من كيانها تتركز عليه رغائبها وأحلامها)، ولأنهما تابعا إنجابه طيلة سنوات تنشئته، فساهما مساهمة كبيرة في تكوين عقله ومشاعره ومجمل شخصيته، ولأنهما تمنيا أن يتحقق له ما لم تسمح لهما الحياة بتحقيقه لنفسيهما وسعيا إلى ذلك بكل جوارحهما. مجمل الكلام إنه تعبير بالغ الأهمية عن شخصيهما وتعويض لهما عن آلام الماضي وحرمانه، ونافذة يطلاّن منها على مستقبل مشرق.

 

 

إن هذا كله من شأنه أن يوقظ في الحبّ الوالديّ معطائية فائقة: فمن السهل نسبيًا، كما أتصور وكما تثبت وقائع عديدة، أن يبذل والد أو والدة حياته فداء عن ولده، لأنه يختبر بأنه، إذا فعل ذلك، إنما يموت ليبقي على أفضل ما في ذاته، وانه إذًا بالموت ينتصر، بمعنى من المعاني، على الموت نفسه ويذوق خبرة قيامية.

 

ولكن طبيعة هذا الحب عينها من شأنها أيضًا- وهنا تكمن المفارقة- أن تحرّك العنصر الآخر، العنصر الإستيلائيّ، الإحتوائيّ، وأن تذهب به إلى أقصى حدوده، أي إلى حدّ تذويب الولد في شخصية الوالدَين. ذلك أن العلاقة الحميمة جدًا القائمة بينهما وبينه قد تنسيهما بسهولة التمايز والاختلاف الضروريين لكي يوجد الولد فعلاً ويحيا بنفسه ولنفسه. عند ذاك يتورط الحب الوالديّ في طريق مسدود ويتنكر لأسمى طموحاته، الا هو نقل الحياة  إلى الآخر وإطلاقه في رحاب الوجود. عند ذاك يتحول الحبّ الوالديّ إلى عبء وقيد يُلقى على الولد فيكبّله- وأسوأ تكبيل إنما هو ذاك الذي يتمّ باسم الحبّ ويغلَّف به- وينشئ بينه وبين الوالدَين صراعًا ظاهرًا أو خفيًا يسمم حياة كل من الطرفين.

 

ثم إن الوالدَين، مهما تشبثا بحلمهما الإستيلائيّ واسترسلا فيه،  فلا بدّ أن يستفيقا منه ذات يوم، على الأقل إذا كبر الولد واستقلّ ماديًا عنهم، ليدركا، بعد فوات الأوان، أن الحياة لا تعود القهقرى، وأن المشروع الذي راهنا عليه بكل ما يملكان إنما كان مشروعًا فاشلاً لا محالة، وأنهما أضاعا أفضل سني حياتهما لاهّثَين وراء سراب وان آمالهما قد خابت وتلاشت تاركة إياهما يواجهان وحدهما النهاية المرتقبة…
يتّضح مما سبق أن السبيل الصحيح لمعالجة الأزمة الوالديّة المرافقة لاستقلال الأولاد والتخفيف من حدّتها قدر الإمكان، إنما هو في تنقية الحب الوالديّ بتغليب عنصر المعطائية والتقبّل فيه (أي تقبّل الآخر في اختلافه) على عنصر الاستيلائية والاحتواء. وهذا ما يلتقي مع مضمون بيت شعري بالغ الدلالة استوحته الشاعرة الفرنسية المعاصرة ماري نويل من معاناتها الشخصية. هذا البيت يقول ما معناه: “إن علاج الحب إنما هو في مزيد من الحبّ”.
“Le remède d’aimer est d’aimer davantage” (Marie Noël)

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share