خواطر في معاني ميلاد المسيح – كوستي بندلي

 خواطر في معاني ميلاد المسيح

إن حدث الميلاد يختصر في ذاته معاني سرّ الخلاص الذي لا تُسبر أغواره. لذا فلن أدَّعي إستنفاد تلك المعاني، إنما أودّ أن أركّز على بعدَين من أبعادها يرتبط أحدهما بمطلع النشيد الملائكي: “المجد لله في العلى…” والثاني بتسمية عمانوئيل التي أُطلقت على المولود.
1- “المجد لله في العلى…” (لوقا 2: 14)
لقد ألِفنا تلك العبارة إلى حدّ أنها أوشكت، كما أخشى، أن تتحول إلى نوع من الكلام المعاد ذي الطابع الفولكلوري، على نمط “كل عام وأنتم بخير”. إلا إننا إذا حاولنا أن ننفض عن ألحاظنا غشاء الرتابة وأن نلقي على هذه العبارة نظرة قادرة، كنظرة الأطفال، أن تكتشف جدّة الأشياء وأن تندهش أمامها، لتكشّفت لنا أبعاد مذهلة تتحدى مفاهيمنا المألوفة، تلك التي تحدّد نظرتنا إلى الله وإلى الإنسان وإلى أنفسنا، وتلهم، من حيث ندري أو لا ندري، مجمل سلوكنا ومواقفنا.

.
أ- التصور العفوي لمجد الله:
nativity-icon1كيف نتصور عفوياً مجد الله؟ إن الإنسان يحمل، ولا شك، في ذاته، سمة الله، ولذا يستطيع، وهو الكائن الناقص والمحدود والذي لا يرى حوله سوى النقص والمحدودية، أن يتصور وجود كائن مطلق وكامل ولا محدود مع أنه لا يشاهد نموذجاً لمثل هذا الكائن في خبرته كلها. وقد قال بول أفدوكيموف بحق بهذا الصدد: “ليس بوسع الإنسان أن يخترع الله، لأن لا سبيل للإتجاه إلى الله إلا انطلاقاً منه” (فن الإيقونة، ص 200، منشورات DDB،1970، بالفرنسية). نحو هذا الكائن الذي طبعت سمته في كيانه والذي يستقطب وجوده كله، يسعى الإنسان، من حيث يدري أو من حيث لا يدري، من خلال سعيه اللاهث، المرتطم أبدًا بالخيبة والمتجدّد بلا انقطاع، نحو تحقيق كامل لذاته، إن على صعيد المعرفة أو على صعيد الوجود، إن على الصعيد الفردي أو على الصعيد الجماعي. إلا أن الإنسان مجرَّب أبداً بأن يحاول مصادرة هذا المطلق الذي يستقطبه، وذلك تجنباً لمشقة ومعاناة تخطي الذات إليه، وهذا هو منشأ الأصنام كلها، قديمها وحديثها، التي إن هي إلا كيانات يسقط عليها الإنسان صورة رغائبه ويضفي عليها، زوراً، صفة الإطلاق، كي يوهم نفسه بأن المطلق أصبح رهن إشارته وانه غدا مطواعًا لأهوائه، فإذا به أمام سراب يعيده إلى محدوديته التي لم يشأ الإعتراف بها ويسدّ عليه منافذ تجاوزها الفعلي، لا بل يرتد عليه ليسحقه.

ولكن هذه النزعة الصنمية التي نحن بصددها لا تتورّع عن التعرض لعلاقتنا بالإله الحقيقي نفسه. ذلك إننا كثيراً ما نسقط عفويًا على هذا الإله المتعالي عن أهوائنا صورة تلك الأهواء فنتخيله وفقًا لمتطلباتها، وبالتالي نصادره ونحوّله الينا لنوفّر على أنفسنا عناء التحوّل، المضني والمحيي بآن، إليه. من هنا تنبع تلك الصورة عن الله التي لا تزال تراود كل امرئ. وإن كان موحِّدًا أو مسيحيًا من حيث المذهب، معششة في ثنايا شعوره، متجذرة في نوازع عقله الباطن، مغتذية بكثير من التصورات الجماعية التي ترسِّخها التربية وتنقلها الأمثال والقصص الشعبية والتعابير اليومية. تلك الصورة- التي دعاها فرويد بحق “وهمًا”، لأن اكتشاف الإله الحيّ ينقلب فيها إلى اختراع صنم مسخّر لإرضاء أهوائنا- إنما هي صورة لإله جبار، عات، مستعل ومتسلط، متربع على عرشه يهيمن منه على الكون متحكماً كما يحلو له بالطبيعة والبشر، ممسكاً بخيوط مسرح من الدمى، يحدّد كل شاردة وواردة في حركاتها وسكناتها وفقاً لرغائبه المطلقة.

قلنا أن هذه الصورة إنما هي وليدة إسقاط أهوائنا على الله. ذلك أن هذا الإله المتسلط، المتحكم بصورة كيفية بكل ظاهرة من ظواهر الكون، إنما هو تجسيم لحلمنا الغريزي العتيق بأن نمتلك قدرة سحرية تحقق في الحال رغائبنا كلها، فإذ يرتطم هذا الحلم بصخرة الواقع نسقطه في صورة إله يحقق هذه الأمنية بالنيابة عنا ويسمح لنا بالتالي أن نحققها من خلاله وذلك عن طريق كسبنا لعطفه وحمايته. ولكن هذا السحر ينقلب على الساحر. فمن جهة، هذا الإله المنسوج على صورة أهوائنا مجرد سراب تضيع في فراغه نزعتنا الأصيلة إلى المطلق وعبثاً نحاول أن نخدّر به عطشنا إلى اللامتناهي، فيصبح وجودنا، والحالة هذه، “هوى لا جدوى منه” حسب تعبير سارتر الذي فضح بدوره، بعد ماركس وفرويد وغيرهما من المفكرين الملحدين، زيف هذا التديّن السحري، ولكنه للأسف لم يستطع هو أيضاً أن يميز بينه وبين نداء الإله الحي. ومن جهة أخرى، ينقلب علينا هذا الصنم الذي شئناه مطية لرغائبنا، فإذا بذلك الإله الذي أردناه ساحرًا، متلاعبًا كما يروق له بالمصائر، يبدو لنا بحق مستبدا مرعبًا(خاصة وأن نزعتنا الخفية إلى مصادرته والإستيلاء عليه تجعلنا في صراع مبطَّن دائم معه وتثير فينا خشية من انتقامه الساحق)، وإذا بالحماية المطلقة التي كنا ننشدها فيه تنقلب علينا اتكالية وخنوعًا واستلابًا لحريتنا وكرامتنا ومسؤوليتنا.

خلاصة القول أن مجد الله، كما نتصوره عفويًا، إنما هو مجد الإستعلاء والتسلط، لأننا ننزع عفوياً إلى مصادرة المطلق وتخيّله وفقاً لما يتناسب ومتطلبات أهوائنا (هذا ما عبَّر عنه الوعد الكاذب الذي رواه سفر التكوين على لسان الحيّة: “ستصيران كآلهة”، تك 3: 5). ولنا على ذلك مثل في ما كان ينتظره اليهود، في الزمن الذي ولد المسيح فيه، من حيث اعتلان مجد الله على الأرض. فقد كانوا يتصورون أن هذا الإعتلان سيتم بشكل ساطع وساحق، فيبيد الله أعداءه وأعداء شعبه ويسود على المسكونة دون منازع ويمنح شعبه الزعامة على أمم الأرض قاطبة.

ففي هذا المنظار، كانت تقترن، كما نرى، سيادة الله بسؤدد شعبه، مما يثبت ما سبق وأشرنا إليه بأن الإنسان يتصور عفويًا مجد الله وفقًا لما يحلم به هو من قدرة سحرية فائقة، تغدو القدرة المنسوبة إلى الله تعبيراً عنها وذريعة لها.

ب- مجد الله كما تجلى في ميلاد المسيح:
وإذا بإعتلان الله في ميلاد يسوع المسيح يفاجئ اليهود- ويفاجئنا جميعاً بقدر ما يحمل كل منا في ذاته نفس الأهواء، أهواء “الإنسان العتيق”، التي حالت دون رؤية اليهود لحقيقة الله رغم مرافقته الطويلة لهم ومخاطبته إياهم المرة تلو الأخرى- بما لم يكن بالحسبان.
إذ بماذا بشَّر الملائكة الرعاة؟ لقد قالوا لهم: “ولد لكم اليوم مخلص في مدينة داود، وهو المسيح الرب”.
هذه العبارات كان من شأنها أن تثير في مخيلاتهم صور العظمة التي ألفوها. وإذا بما يليها من كلمات يكشف المفارقة المحيّرة: “وإليكم هذه العلامة: ستجدون طفلاً مقمّطاَ مضجعًا في مذود” (لوقا 2: 11 و12). صورة “للرب” جديدة بالكلية تجلت، عند ذاك، ناسفة الصور القديمة التي مسختها أهواء الإنسان. “علامة” الرب لم تعد قوة ماحقة تزلزل الأرض وترعب البشر. فالله يتجلى في ذروة إعلانه للبشر بصورة “طفل” (والطفل لا حول له ولا طول وهو تحت رحمة محيطه)، لا بل بصورة طفل فقير وشريد لم يجد أبواه في ساعة مولده “موضعًا لهما في الفندق” (لوقا 2: 7) “فلم يكن له مكان يسند إليه رأسه” (متى 8: 20) عند دخوله هذا العالم سوى مغارة تأوي إليها القطعان و”مذود” يوضع فيه علف البهائم.
خطأنا الشائع، نحن معشر المسيحيين، إننا نعتقد أن تلك الصورة مجرد قناع يحجب حقيقة إله لا نزال نتصوره على نمط “جوبيتر” الأقدمين رغم إعلان يسوع المسيح، بينما يسوع قال بصراحة: “من رآني فقد رأى الآب” (يوحنا 14: 9). وكأن ” الإنسان العتيق” فينا يأبى أن يتقبل جدّة الإعلان الإلهي التي تعني زواله فيستميت في المقاومة محاولاً أن يحتوي “جدّة الحياة” نفسها ليخلّد بها عتاقته. ولكن لو كانت تلك الصورة التي ظهرت في إحدى ليالي بيت لحم مجرد قناع احتجبت الألوهة وراءه، لما رتَّلت الملائكة حين ولادة الطفل الشريد: “المجد لله في العلى…”، وكأنها تقول أن مجد الله وعلوّه قد تجليا بأوضح بيان في الصبي الصغير، طريح المغارة ومذود البهائم. وهذا يعني أن مجد الله ليس كما نتصوره إذا انطلقنا على سجيتنا، وأن علوّه يختلف بالكلية عما ألفناه من مفهوم العلى.

فما هو مجد الله؟ كما كان قلب تلميذَي عمواس “متقداً في صدرهما” (لوقا 24: 32) عندما كان “الغريب” يحدثهما ولم يكونا يعرفان بعد أنه يسوع، هكذا فغرابة الله تجد لها في نفوسنا صدى أعمق من جلبة الرغائب المنتفخة وتوقظ فينا تلك الصورة الإلهية التي لم تستطع الأهواء أن تطمس معالمها بالكلية. لذا فمجد الله، كما تجلى بشكله الغريب في حادثة الميلاد، يخاطب ما في نفوسنا من أصالة كامنة، فنصبح كمن تذكر لغة منسية وأضحى يفهم بواسطتها ما بدا له لأول وهلة لغزاً مستعصياً. ما هو مجد الله؟ إن انقضاض المفأجاة الإلهية علينا من خلال مشهد طفل بيت لحم يوقظ فينا صوراً تدنينا من مفهوم السرّ، وإذا بالكون يستعيد أمام رؤيتنا شفافيته ويغدو، كما في أمثال الرب يسوع، حافلاً بالرموز التي تهجّئ بهاء الملكوت العلوي، فنتساءل: ما هو مجد الشعلة؟ أليس أن تلهب وتضيء؟ ما هو مجد الينبوع؟ أليس أن يتدفق ويروي ويخصب؟ ما هو مجد الوالد؟ أهو أن يتعظم من خلال أولاده بالتسلط عليهم وتسخيرهم لتحقيق مآربه وأحلامه، أم أن مجده هو بأن يطلق في رحاب الحياة كائنات حرة، فرحة، خلاقة، تسير دون عائق نحو اكتشاف هويتها الفريدة وتحقيق شخصيتها الأصيلة، فتتحقق بها أبوّته على أكمل وجه؟

على هذا المنوال يبدو مجد الله لرؤيتنا المتجددة (أو ليست التوبة بمعناها الإنجيلي، “متانيا”، هي قبل كل شيء تجديد الرؤيا؟ ) كما تجلى في ميلاد المسيح. إنه ليس مجد السؤدد والجبروت والتسلط، كما أسقطته أهواؤنا، بل مجد المحبة والعطاء. وقد قال القديس ايريناوس، أسقف ليون (130- 202 م.) : “مجد الله هو أن يحيا الإنسان”. ذلك أن مجد الله إنما هو مجد المحبة، والمحبة لا تتمجد إلا بإحياء المحبوب. مجد المحب أن يفرغ ذاته كي يغني المحبوب. لذا فمجد الله كما ظهر بالميلاد إنما هو مجد إفراغ الذات Kenosis (فيليبي 2: 7). ولإفراغ الذات هذا هدفان تمليهما المحبة: أن يتوارى الله لكي يوجد الإنسان، أن يتنازل الله لكي يشارك الإنسان.

• أن يتوارى الله لكي يوجد الإنسان:
نتصور الله بموجب أهوائنا، جباراً يتحكم بكل شاردة وواردة في الكون، وفي حياة الإنسان، قدراً رهيباً يسيّر مجريات الأمور ويتلاعب بطاقات الكون وفقاً لإرادته الغامضة. (أذكر على سبيل المثال ما قاله لي مؤخراً رجل طيب معلقًا على فيضانات حصلت في الهند وعقبها زلزال في إيران. قال لي بمزيج من الإعجاب والرعب كان يعبّر به عن مشاعر التديّن العفوي: لقد دمّر الله أعمال البشر تدميراً كاملاً، مسحها مسحًا كما نمسح نحن بالزئبق، فالويل لمن لا يخافه! ومن شاء أن يطلّع على المزيد من التعابير عن هذا النمط من التديّن الشائع عند أناس خالصي النية، فليراجع رواية استوحاها الكاتب السوري حنا مينه من ذكريات نشأته في محيط أرثوذكسي شعبي: راجع “بقايا صور”، دمشق 1975، و”المستنقع”، دمشق 1977). وبالفعل لو لم يكن الله يضع حدًا لقدرته الكلية، لكان هذا الكون برمته، المخلوق من العدم، بما فيه الإنسان، مجموعة دمى تتلاعب بها يده. ولكن الله، كما عرفناه في يسوع المسيح، يتوارى لكي توجد الخليقة بالفعل ولا تكون مجرد ظل وامتداد لخالقها. لذا فمنذ خلق الله الكون قيّد قدرته على صورة ما لكي يوجد الكون بالفعل، وهذا صحيح خاصة بالنسبة لخلق الإنسان إذ أن الله أطلق عند ذلك في الوجود حرية شبيهة بحريته وقبِل بالتالي أن يدخل في مجازفة إذ أفسح أمام تلك الحرية مجال الإرتداد على خالقها إذا شاءت. لذا كان الخلق لا تملكا وتسلطا، كما يحلو لنا أن نتصور، بل عمل حب مضحٍّ، إذ به انسحب لله على نحو ما- مع بقائه أساس ومصدر كل موجود في كل لحظة من لحظات وجوده- لكي يوجد الآخر فعلاً لا شكلاً. ولذا يُفهم من العهد الجديد أن حمل الله ذبيح منذ إنشاء العالم (راجع رؤيا 13: 8). وما ظهور الله بمظهر طفل قاصر، فقير وشريد، سوى أوضح كشف لتلك الحقيقة الإلهية كما انه إنباء بالذروة التي سوف يبلغها هذا التواري عندما يقبل الله بأن يُرفض من مخلوقاته البشرية حتى القتل، وبأن يدع النواميس المادية والبيولوجية تفعل فعلها في البشرة المتحدة دون انقسام بلاهوته حتى موت الإختناق والنزف على الصليب. لذا يرتبط، في الطقوس والروحانية الأرثوذكسية، الميلاد بالآلام: فمن هنا التوازي بين خدمة الميلاد وخدمة الجمعة العظيمة، ومن هنا تسمية الميلاد “بالفصح”، ومن هنا أن المذبح يشير بآن إلى المغارة التي ولد فيها المسيح وإلى تلك التي دُفن فيها (وفي كلتيهما كان “غريباً” إذ لم يكن يملك لا هذه ولا تلك)، ومن هنا أن الأقمطة التي تُرسم حول الطفل في أيقونة الميلاد تشبه تماماً الأكفان التي يلفّ بها جسد الميت، ومن هنا تفسير المرّ الذي قدّمه المجوس للمولود على أنه مقدمة للطيب الذي أرادت النسوة دهن جسد المسيح به بعد موته.

إلا أن تنازل الله ليس مجرد توار لكي يوجد الإنسان، إنما هو، أكثر من ذلك، مشاركة للإنسان في مأساته. فالله، كما تجلى لنا في ميلاد يسوع المسيح، ليس فقط لا يتلاعب بالإنسان، ولا يتسلى بآلامه، بل إنه إلى جانبه في صراعه ضد الآلام الناتجة سواء عن وضع الخليقة الناقص لا محالة بسبب التمايز القائم بينها وبين الله، أو عن سوء استعمال الإنسان لحريته. هذا ما تحقق بأفضل صورة باتخاذ الله وضع الإنسانية المأساوي، بدخوله إلى صميم ضعفها وآلامها، وهذا ما تعبر عنه أجلى تعبير صورة الطفل الصغير، طريح مذود البهائم في مغارة كانت المأوى الوحيد الذي قَبِلَ أن يستقبله في غربته.

مجمل الكلام إذًا أن مجد الله، كما ظهر بالميلاد، إنما هو مجد المحبة التي تخلي ذاتها لتوجد المحبوب وتشاركه المصير. لذا أصبح هذا المجد مرادفاً للتنازل. ولكن المفارقة التي أعلنتها الملائكة هي ان “على” الله معلن في تنازله، وهذا ما من شأنه أيضاً أن يقلب مفاهيمنا رأساً على عقب. فالعلى، كما يتصوره الإنسان في عفوية غرائزه، إنما هو في التملك والتسلط والتشامخ والسؤدد. لذا فمن الطبيعي أن يسقط على الله تلك الصورة فيراه شموخاً لا يجارى واستعلاء لا مثيل له. ولكن “عُلى” الله، كما ظهر بالميلاد، هو بالضبط في كونه يعلو على كل تشامخ وتملك وتسلط، أي في كونه منزهًا عن تلك المفاهيم التي ترضي أهواء الإنسان.

هذا ما يعيدنا إلى ما قاله الله في العهد القديم على لسان أشعياء النبي: “إن أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي يقول الرب. كما علت السماوات عن الأرض كذلك طرقي علت عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم” (أشعياء 55: 8و9).
“علوّ” الله إنما هو على نقيض الإستعلاء لأنه بالضبط ترفّع عن شهوة الإستعلاء. إن تهافت الإنسان على التملك والتسلط إنما هو في آخر المطاف نتيجة ضعف وهزالة كيانه الصائر إلى الموت، أما الله، فلأنه الوجود المطلق، لا اثر للضعف فيه، ولذا فهو وحده قادر على تخطي التملك والتسلط اللذين يشوبان علاقة الإنسان بالإنسان. إن أقدر المتسلطين مُستعبَد لشهوة التملك المستحوذة عليه. الله وحده، كما بيّن أبو الوجودية الفيلسوف كيركغور، بما أنه كلي الإقتدار، حرّ من هذه الشهوة إلى حدّ أنه يستطيع أن يمنح الوجود للكائن الإنساني وينسحب بآن ليقيمه في استقلالية الوجود (راجع منتخبات من يوميات كيركغور 1846-1849)، مترجمة إلى الفرنسية، باريس 1954، ص 62-63). إن “عُلى” الله يسطع إذاًً في هذا التنازل الذي يظهره حراً من قيد التملك الذي يشوب قدرة الإنسان.

هذا الإله المتنازل لا يلتقي به من يتشامخون، وإن انتسبوا كلامياً إليه. إنه بعيد عن الذين يغتصبون خيرات الأرض ليستأثروا بها على حساب الجياع والمحرومين من أخوتهم، وما أكثرهم في دنيانا، وإن كان أولئك، أفراداً أو جماعات، يتخذون من اسمه شعاراً لهم. إنما يلتقي به المتواضعون، هؤلاء الذين لا ينتفخون بذواتهم ولا يتسلطون على سواهم، بل يقيمون وزنًا للآخر ويتجهون إليه بالحب وينفتحون عليه بالمشاركة. ولذا فأوّل من اعتلن لهم الرب المولود في مغارة كانوا الرعاة، هؤلاء الفقراء، بسطاء القلب، الذين كانوا لا يعتدّون بأنفسهم ولا يستكبرون، بل ينتظرون خلاص الله. وقد كان هؤلاء ينتمون إلى تلك الفئة من الناس التي عُرفت في العهد القديم “بفقراء يهوه” الذين تحدث عنهم الأنبياء والمزامير والذين كان يقترن الفقر المادي عندهم بالتواضع والتماس الله. إن أمثال هؤلاء، ومنهم العذراء (راجع نشيدها في لوقا 1: 46-55)، كانوا مستعدين لتقبل معية الله للناس، تلك المعية التي أعلنها وحملها إلى ذروتها ميلاد المسيح.

2- “يدعى عمانوئيل، أي الله معنا” (أشعيا 7: 14، متى 1: 23)
بالتجسد ألقى الله ذاته في صميم الكون، كثّف فيه ذلك الحضور الإلهي الكائن منذ أن وجدت الخليقة (فإن حضوره المحيي، “طاقاته”، حسب تعبير القديس غريغوريوس بالاماس، يغمر الكون منذ أن وجد الكون، وإن كان “جوهره” متعاليًا عن الكون، فإننا “به نحيا ونتحرك ونوجد” كما قال الرسول: أعمال 17: 28). وبنوع خاص ألقى الله ذاته في صميم تاريخ البشر، أصبح مشاركاً إياه إلى أبعد حد، جعل تلاحماً بين ذاته وبين مصير الإنسان.
هذا لا يعني أن تاريخ البشر ذاب في الله، فالله لا يذيب الكون ولا البشر في ذاته. إنما يؤكد وجودهما كما رأينا. وكما أن اللاهوت والناسوت اتّحدا في المسيح دون أن يذوب أحدهما في الآخر، هكذا فإن حضور الله في صميم الكون وفي قلب التاريخ لم يلغِ لا كيان الكون ولا كيان الإنسان. لذا بقيت للكون نواميسه وبقي التاريخ مسرحاً لنضال الإنسان وعثراته. وكما أن حضور اللاهوت في شخص المسيح لم يمنعه من أن يجوع ويعطش ويحزن ويتألم ويموت،كذلك لا يزال الإنسان يعاني من مأساة الشر والعزلة والألم والموت. ولكن الله، في يسوع المسيح، أصبح، كما رأينا، حاضراً في صميم المأساة، أصبحت آلام البشر آلامه ومعاناة البشر معاناته: هو يعذَّب في المعذَّبين ويضطهَد في المضطهَدين ويشرَّد في المشرَّدين ويجوع في الجياع ويؤسَر في المأسورين ويموت في ضحايا الكوارث الطبيعية أو الإقتتال بين البشر ويصلَب في خطايا الظالمين والمستكبرين والمستغلين. هكذا يمكننا أن نفهم كلمة باسكال الشهيرة: “المسيح في نزاع إلى نهاية الأزمنة، فلا ينبغي لنا أن ننام في هذا الوقت”.

ولكن حضور الله في المأساة حضور يحيي. إنه يشارك في المأساة كي يفجّر القيامة في وسطها. (في أيقونة روسية للميلاد تعود إلى القرن السادس عشر، تصوَّر المغارة بشكل فوهة حالكة السواد تطلّ على أعماق الأرض المظلمة، وقد طُرح الطفل في وسط هذا السواد حيث تتألق أقمطته ببياضها الناصع: هذا يشير إلى أن الله انحدر إلى جحيم الإنسان ليلقي فيه نوره الظافر المحرِّر حسب قول يوحنا في مقدمة إنجيله: “النور يضيء في الظلمة”: يوحنا 1: 5- راجع بول أفدوكيموف: فن الإيقونة، ص 230-233). مما لا يعني أن مشاكل الكون تُحلّ بفعل سحري. فلا بد للإنسان أن يسبر بعقله نواميس الكون لتزداد معرفته لها وبالتالي تحرره من طغيانها عليه وقدرته على تسخيرها لغاياته، ولا بد له أن يناضل من أجل تطوير مجتمعه على ضوء ما يكتشفه من نواميس إقتصادية وإجتماعية كي يجعله أكثر ملاءمة لتحقيق إنسانية كل إنسان، ولا بد له من خوض صراع لا هوادة فيه مع الشر والفساد فيه وحوله، ولكن الله هو في قلب هذا الجهاد الإنساني يلهمه ويغذيه ويدفعه نحو آفاق لا حدّ لها، بحيث أن كل خير وكل حق وكل جمال وكل عدل وكل تحرر ينبع منه، وإن لم يدرِ صاحبه، ويسعى إليه في آخر المطاف ولذا فهو لا يقف عند حدّ ولا يقنع بمنجزات مهما سمت.  الله مع البشر في تاريخهم، يشاركهم معاناتهم ويلهم إنجازاتهم الخي‍ّرة ويحرّك توقهم اللامتناهي إلى الإكتمال. وهو الضمانة الوحيدة بأن هذا التاريخ لن يفشل، رغم عثراته وآثامه وأهواله، وبأنه سوف يتوّج بكون متجدّد “لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر” (1 كو 2: 9)، وبأن كل إنجاز خيّر وجميل صنعه البشر، كل ما حققوه في حضارتهم من حق وخير وعدل وجمال وإخاء وتحرر، سيُحفظ جوهره ويتجلى في ذلك الملكوت الآتي، وبأن كل دمعة سوف تُمسح (رؤيا 21: 4) وكل حزن يُزال وكل جرح يُشفى وكل موت يُقهر.

الكنيسة هي جماعة الذين وعوا تلك الحقائق والتزموا بها، ولذا يفرض فيهم أن يكونوا خميرة التجدد في هذا الكون الذي ألقى الله ذاته في صميمه. إنهم بين البشر علامة حية لتلك المعية التي أقامها الله مع الناس، وهم يذوقون بالأسرار باكورة الملكوت الآتي. لذا يُطلب منهم، أفراداً وجماعات، أن يكونوا شهوداً لحقيقة التجسد، أي لحقيقة هذا الإتحاد الصميمي، الذي لا ذوبان فيه، بين الله والبشر. لذا ينبغي لهم:

• من جهة، أن يتعهدوا بجدّ وإخلاص المهمات التاريخية الملقاة على عاتق الإنسان، عالمين بأن كل مدماك يضعونه في بنيان التاريخ إنما هو مساهمة في بناء جسد الله نفسه. وبنوع خاص ينبغي لهم أن يهتموا بالضعاف والمعذبين لأنهم بذلك إنما يضمدون جراح المسيح ويرفعون عنه الذل والظلم: “كنت جائعاً فأطعمتموني… كل ما صنعتموه إلى واحد من إخوتي هؤلاء الصغار فإليّ قد صنعتموه” (متى 25: 35-40). ينبغي لهم أن يدركوا أن ايمانهم لا يغنيهم عن جهد السعي البشري وأنه لا يحلّ بشكل سِحري القضايا البشرية التي تتطلب استنباط حلول بشرية لها من علمية وتقنية ونفسية وإقتصادية وسياسية وإجتماعية.

• لكن عليهم، من جهة أخرى، مهما توغلوا في المهمات التاريخية التي هي ترجمة لمحبتهم والتي يعلمون انهم في ميدانها “عاملون مع الله” (1 كو3: 9)، أن لا ينسوا واجب إعلان الله للبشر، عالمين أن الله هو المناخ الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يتنفس فيه بسعة تنشرح لها أعماقه وأنه بدونه يختنق روحيًا أيا كانت الخيرات التي يتمتع بها. وهذا ما يثبته الضيق الذي يعاني منه الإنسان المعاصر في المجتمع التكنولوجي شرقًا وغرباً والذي يعبّر عن ذاته، بنوع خاص عند الشباب، برفض يتخذ أشكال العنف والهروب (بالمخدرات مثلاً) وبسعي لاهث نحو الإختبارات الروحية على أنواعها، وحتى أغربها، متذكّرين أن الإنسان، بدون الله، يصبح فريسة سهلة للأصنام التي يحاول من خلالها أن يؤلّه ذاته، كالمال واللذة والتقنية والعرق والطائفة والأمة والحزب والزعيم وما شابه ذلك، فترتد عليه هذه الآلهة الممسوخة وتجرده من انسانيته وتستعبده وتسحقه، مدركين أن الحلول الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، مهما تكن ضرورية، لا تكفي إن لم يتحول الإنسان أيضًا، بل تؤول إلى استبدال ظلم بظلم وفساد بفساد، وأن الإنسان لا يتحول في الصميم إن لم ينفتح إلى الله في أعماقه.
ويعود إليهم أن يكونوا، على ضعفهم وخطاياهم، شهادة حية لإمكانية هذ ا التحول، وهم الذين يعرفون “أن الله صار إنساناً ليصير الإنسان الهاً” أي لكي يحقق أصالته الإنسانية بتقبله زرع حياة الله فيه بحيث يسري في كيانه اللحمي، رغم وهنه وسقطاته، فيض حب إلهي قادر على قهر العزلة والخوف والشر والموت.

وبما أن كل حديث عن الله لغو إن لم ينطلق من حديث اليه ويصبّ في مناجاة له، أختم خواطري بهذه الصلاة:
“أيها الرب المولود من أجلنا، يا من نرتل لك في طروبارية العيد أن “ميلادك… قد أطلع نور المعرفة للعالم”، أعطنا أن نعرفك فعلاً ونهتدي إليك بالحقيقة. أعطنا أن نخلع عنا الصور الصنمية التي تحبكها أهواؤنا والتي لا تزال تحجب عنا حقيقتك المحيية رغم مضيّ عشرين قرناً على مجيئك إلينا وسكناك معنا. هَبنا أن نتحوّل إليك، فنستنير ونحيا ونتجلى، عوض أن نحاول شدّك إلى عتاقتنا الخانقة والتذرّع بك لتخليد استعبادها لنا. إجعل هذه المعرفة أن تكون، حسب منطوق كلمتك، لا معرفة بالعقل فحسب، بل اختباراً كيانياً يغيّر أسلوبنا في التفكير والعيش وينعكس في مواقفنا وأعمالنا، بحيث نستطيع أن ننقل لإخوتنا البشر الذين أحببتهم إلى حد مشاركتهم المصير، خبرة معاشة، فنكون بينهم امتداداً حيا لتجسدك وتخاطبهم أنت من خلال أشخاصنا الضعيفة فتكشف لهم ذاتك وتجذبهم إليك وتمدهم بنورك الذي لا يضمحل وقدرتك التي لا تُقهر وحياتك التي تجدّد كل وجود. آمين”.
مجلة “النور”، العدد 1، 1979

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share