أولاً: المرحلة الفمية في النمو الإنفعالي
إنها أول مظاهر الحبّ. فيها يعبّر الطفل الرضيع عن حاجته إلى الآخر وارتباطه الصميم به بالتهام حليب الأمّ (التي تمثّل، بالنسبة إليه، الكون كلّه بما فيه من أشخاص وأشياء). تلك هي أول تهجئة لحبّ لم يزل، في تلك المرحلة، جنينيًا، تنقصه صفات الحب الأصيل:
1- لأن موقفه من الآخر موقف استيلائي. فالطفل، عند ذاك، يلتهم الأم، أي أنه يذيبها في ذاته كما يذوب الطعام في الجسم الذي يبتلعه. لا يقيم لها وزنًا كشخص مستقلّ بل يعتبرها مجرد ثدي، مجرّد طعام، يتصرف وكأن مبرّر وجودها الوحيد هو إشباع جوعه وإمداده بالحنان والدفء والأمان. يتعامل معها وكأنها امتداد له، وكأنه هو مركز الكون ومحوره.
2- لأن موقفه من الآخر (الممثَّل هنا بالأمّ كما قلنا) موقف تجاذب وجدانيّ بين متضاربين: حب وعدوان. فالرضيع يهوى الأم المرضعة ولكنه يهواها على أنها طعام يُستهلَك، وبالتالي يُتلَف ويدمَّر لإشباع الرغبة.
ثانيًا: رواسب هذه المرحلة في الشخصية الإنسانية.
1- هذه المرحلة الأولى من النمو الإنفعالي، لا يتجاوزها المرء بشكل كامل، بل تبقى في أعماق نفسه آثار لها تؤثر في ميوله وسلوكه. وتتفاوت أهمية هذه الآثار وفقًا لتكوين الفرد وظروف طفولته وما يتوصّل إليه أو لا يتوصل من نضج نفسي وروحيّ.
2- لذا ففي كلّ منا نزعة، تجد جذورًا لها في أعماق طفولته، إلى اعتبار الكون والآخرين مادة يستهلكها ويذيبها في ذاته ليؤكّد بها وجوده، وكأن الكون كله مادة تُلتَهم كما كان يبدو للطفل الرضيع الذي كان، من خلال الأم، يجتاف (يدخل إلى جوفه) الوجود كلّه ويذوب هو فيه بآن، في اختلاط لا تمايز فيه ولا حدود.
3- تلك النزعة تشوّه علاقاتنا بالآخرين إذ ننظر إليهم من خلال حاجاتنا وحسب، متناسين وجودهم الذاتيّ، فنستغلّهم لبلوغ مآربنا غير حافلين بأهميتهم كأشخاص مستقلين هم غاية بحد ذاتهم وليسوا مجرد وسائل. هكذا قد يستغلّ رب العمل عمّاله كآداة للكسب ليس إلاّ. هكذا قد ينظر الرجل إلى المرأة كما لو كانت مجرد أداة للمتعة، هكذا قد لا يرى الوالدون في أولادهم سوى امتدادٍ لهم ومجالاً لتنفيذ رغائبهم … كل ذلك يدفعنا، وباسم الحبّ أحيانًا، إلى ممارسة عدوان على الآخرين، على حريتهم وكرامتهم، على حقوقهم المشروعة، على مصالحهم الحيوية.