خواطر ربيع

mjoa Thursday October 30, 2008 536

أود أن أبدي لكم في كلمتي هذه بعض الخواطر التي أوحاها إلي وقوع عيد الحركة في بدء الربيع. لقد علّمنا الرب نفسه أن الكون كله، من شجرة التين التي إن أورقت تنذر بقدوم الصيف إلى حبة الحنطة التي إن لم تمت تبقَ وحدها، قلت علّمنا أن الكون كله نسيج رموز تُحدّث عن الملكوت كلّ من كان قلبه مستعداً لاقتباله، ولذا شئت أن أتأمل، في نوره، بتلك الرسالة الصامتة التي ينقلها إلينا أجمل الفصول.

.

سر الربيع 
 إخوتي، في ذلك الاخضرار الذي كسا كورتنا الجميلة تتمايل بينه الأزهار ذات الألوان الزاهية، في أريج أزاهير الليمون الذي بدأ يعطّر الأجواء في فيحائنا، في تغريد الطيور، في النسيم الدافئ اللطيف، في كل ذلك الجمال الذي يطرب القلب ويسحر العيون، في كل ذلك وعود ووعود… سر الربيع ليس في جماله وحسب، بل فيما يَعِدُ به الإنسان. ومن منا لم يصغِ، في أعماق قلبه، بنشوة الأمل، إلى مواعيد الربيع؟ إنها مواعيد حياة متدفقة لا ينضب معينها، أو شباب دائم لا تذوي نضارته، وفرح لا يزول وملء في الوجود، وشركة تامة مع الكون. وكأن الطبيعة تسر في آذاننا، في كل ربيع، بهذه الوعود الخلابة فيرقص لها القلب وتضيء بها العيون لأنها في النهاية وعد بالأبدية والخلود الذي وجد الإنسان من أجله والذي لا يزال يصبو إليه بملء جوارحه. ولذا ألَّه الناس فيما مضى الربيع في بلادنا وتعبّدوا له لأنه يجدد الكون ويبعث في النفوس آمالاً لا حد لها.

 

مواعيد الربيع
 ولكن هل تتحقق مواعيد الربيع؟ أين الفرح الذي لا يزول وهموم الحياة وآلامها وخيباتها تحيط بنا من كل جهة؟ أين ملء الوجود والفراغ معشش فينا؟ أين التجدد ورتابة الزمن والعادات تقيدنا والسأم يتأكلنا كالصدأ؟ أين الشركة ونحن في عزلة وصراع؟ أين الشباب الدائم والفناء يتسرب إلينا شيئاً فشيئاً؟ أين الخلود والموت يحصد حولنا من نحبهم وظلّه يخيّم علينا؟ كلّا لن يبرَّ الربيع بوعده، إن أزهاره تذبل وأغاريد طيوره تصمت ونوره يخبو والآمال التي أيقظها تتحطم كطيور مقصوصة الجناحين.

 

مصدر المواعيد
 ومع ذلك ليس وعد الربيع بكاذب. ليست مواعيده مجرد وهم وسراب. كل ما في الأمر أن ليس بمقدور الربيع أن يبر بوعده، ليس في طاقة الحياة أن تحقق الآمال التي توقظها. ذلك أن هذه الوعود وهذه الآمال ليس مصدرها الطبيعة والحياة إنما مصدرها أعلى من كل ذلك بما لا يقاس، لأنها تنبع من خالق الطبيعة والحياة. جمال الكون وكل ما يوحي به من أماني إنما هي تهجئة لله ومواعيده، وإذا كانت التهجئة تسحر القلب فكيف إذاً يكون المعنى؟ شيمة البالغ أن يتجاوز التهجئة لينفذ إلى المعنى، ولكن مأساتنا أننا متغربون عن الله، ضائعون في الموجودات تلهينا التهجئة عن المعنى، نحاول أن نمتلك الكون فلا نجد إلا الفراغ بين أيدينا كمن أراد أن يمسك الماء والماء يسيل بين أصابعه. وهكذا نعيش في خيبة وألم وحنين لأن الكون يوقظ فينا عطشاً لا يمكنه أن يرويه وشوقاً لا يمكنه أن يطفئه، لأنه عطش وشوق إلى ذاك الذي يخاطب من خلال الكون قلوبنا ونحن عنه لاهون. ألم ينشد الشاعر كلوديل “لو لم يكن الكون يحدثني عنك، لما اشتد هكذا ألمي”؟

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share