(*) الصيام والطاعة والفداء

mjoa Sunday November 2, 2008 225

هذه أسئلة طرحتها عليّ فرقة جامعية حركية، بالغة الحيوية، في فرع طرابلس – الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية، أطلقت على نفسها هذا الاسم المعبّر، وهو “فرقة الإنسان الجديد”. وقد أجبتها عليها في اجتماعين عقدتهما الفرقة، الأول في 22/4/1989، والثاني في 6/5/1989. وقد سجّل كلماتي أحد أعضاء الفرقة، خريستو المرّ (وهو حاليًا، الأستاذ الجامعّي الدكتور خريستو المرّ) ثم راجعت أنا المذكّرات الخطيّة التي أتيح له أن يسجّلها فكان هذا النص الذي أنقله هنا مع تعديل وتنقيح.
11/2/2006

السؤال الأول: حول الصيام
نص السؤال: لماذا الصوم هو انقطاع عن أكل الحيوان ومشتقّاته؟ كيف نفهم قضيّة “السلام مع الحيوان” حيث تُعطى كسبب لعدم أكل اللحم؟ وكيف نفهم عندها عدم أكل مشتقّات الحيوان، كالحليب والبيض؟

 

الإجابة:
الموضوع متشعّب وواسع. قلب القضية هو هذا: علاقتنا بالحياة كثيرًا ما تكون علاقة افتراسية. علاقة من هذا النوع هي شريعة الحياة الحيوانية، ونحن، من حيث انتمائنا إلى العالم الحيواني، لا نشذّ عن هذه القاعدة، فنفترس، لا النبات وحسب، بل الحيوانات الأضعف. لا أحكم على هذه العلاقة الافتراسية أخلاقيًا، فقد تكون ملازمة للحياة في دنيانا الراهنة، مع أن هناك جماعات من النباتيين يمتنعون عن أكل اللحم لا بل يذهب بعضهم حتى إلى الامتناع عن المشتقات الحيوانية، ولكني أتجاوز الحكم الأخلاقي البحت، فأُلاحظ أن علاقتنا بالحيوان وبالتالي بالحياة- لأن الحيوان يشكل الشكل الأكثر تطورًا للحياة – إنما هي علاقة افتراسية. فإذا تأملنا في هذا الأمر من منطلق روحيّ، نجد أننا، إذا لم نراجع، إذا لم ننقد هذا النمط من العلاقة، ولو اعتبرناها مشروعة على الصعيد الأخلاقي، إذا لم نراجع هذا الموقف الافتراسي من حين إلى حين، نتعرض للوقوع في انحراف روحيّ، ألا وهو التصوّر بأن الحياة إنما وُجدت لأجلنا، وبالتالي تصوّر أنفسنا على أننا محور الكون، محور الوجود، لأن الحياة، وهي أسمى ما في الوجود، إنما هي وُجدت، كما نعتقد، لخدمة أغراضنا. هكذا، وإن لم نذهب إلى حد القول بأننا محور الكون، نتصرف بالفعل كما لو كنا كذلك. فإذا انقدنا إلى هذا الانحراف، عن وعي أو غير وعي، لا نعود نعتبر أنفسنا مخلوقات في واقع الأمر، ولو استرسلنا نظريًا في إعلان ذلك – فقد يكتب المرء مجلدات عن الله الخالق دون أن يحيا كيانيًا مخلوقيّته.

 إن الامتناع عن افتراس الحيوان يسمح لنا بأن نعيد النظر في تلك النزعة الافتراسية التي قد تبدو لنا بديهية. وبالتالي فإنه يتيح لنا إعادة النظر في اعتقادنا الضمني بأننا محور الكون. إعادة النظر هذه تأتي عند ذاك لا فكريّة وحسب بل جسديّة أيضًا، لأن مواقف الإنسان- ذلك الكائن المتجسد- لا تكتمل ولا تكتسب كل أصالتها إلا إذا شارك الجسد فيها. فرادة الصوم أنه يجعلنا نعيش، بالجسد وليس فقط بالذهن، أن الحياة لم توجد من أجلنا، بل من أجل ذاتها، وأنها، في آخر المطاف، ليست لنا إنما هي لله، كما أننا لله نحن أيضًا.

 وإذا كان الله “محبة”، كما يعلن الكتاب، فالحياة تكون إذًا قد وُجدت من أجل الحبّ، والكلمة الأخيرة فيها ينبغي، بالتالي، أن تكون للحبّ، أي أن يغيب عنها العنف والافتراس والذعر والموت. نحن، بالصوم، نرسم صورة عن هذه الحياة المتحرّرة، نستبق هذا المصير ولو كان في لحظة مباركة من حياتنا تكون عربونًا لما سوف يأتي. نستبق ذلك الوضع الفردوسي الذي رُسم في سفر التكوين وكأنه كان في البدء حتى يُعلَن، من خلال ذلك، أنه إنما هو الأصل، أي أنه يعبّر عما شاءَه الله في الأساس، عما جعله قاعدة للخلق، ولو بقيت هذه القاعدة مؤجّلة التحقيق؛ عن النموذج الذي وُضع ليسير العالم إليه والذي سوف يتحقق في نهاية الأزمنة، عندما سيكون الله “كلاًّ في الكلّ”، على حدّ تعبير الرسول بولس، ويصبح العالم عالم الله بكل معنى الكلمة. آنذاك لن تتلاشى الدنيا ولكنها ستتجلى، أي ستكتسي بهاء ليس بوسعنا أن نتصوّره لأنه يتعدى كلّ خبراتنا وتخيلاتنا، إذ أن “ما لم تره عين ولم تسمع به أذُن ولم يخطر على قلب بشر ما أعدّه الله للذين يحبونه” كما أعلن الرسول نفسه. دنيانا لن تزول ولكن ستصبح دنيا الله، ولذا سوف يسود الحبّ فيها ويزول الموت ويزول الذعر ويزول الافتراس. هذا ما رسمه إشعيا في هذا المقطع الرائع من نبؤته:

“فيسكن الذئب مع الحمل،
ويربض النمر مع الجدي،
ويرعى العجل والشبل معًا،
وصبي صغير يسوقهما…”
(إشعيا 11: 6)

هذه صورة عن دنيا الله التي ننتظرها برجائنا. ونحن، بالتالي، في الصوم، بانقطاعنا عن الافتراسيّة، نكون مدشّنين للعالم الآتي، الذي سوف يكون. نكون إذًا قائمين بخطوة نبويّة، لأن النبؤة ترسم في العالم الراهن صورة الملكوت الآتي (لذا فالنضال الاجتماعي في سبيل تغيير العالم نحو الأفضل هو عمل نبوي). هكذا، من خلال الصوم، نرسم في عالمنا الحاضر معالم العالم الآتي.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share