هذه أسئلة طُرح الأوّلان منها مرشدو الطفولة في فرع الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية وكان مفروضًا أن يُجاب عنهما في حلقة تربوية تُعقد في 7/4/1990، ولكن ذلك تأجل إلى حلقة لاحقة عُقدت في 17/4/1991. أما الإثنان الأخيران فقد طرحهما مرشدو الطفولة في فرعين آخرين من فروع مركز طرابلس للحركة وأُجيب عنهما في حلقة تربوية عقدها المركز في 26/8/1990.
.
أولاً: استعداد الطفل للمناولة:
• “الإستعداد للمناولة بالنسبة للطفل. كيف؟ حسب الأعمار
أ- إلى أي مدى نستطيع التساهل مع الأولاد في موضوع الإستعداد (الأكل قبل المناولة..).
ب- في حال التأخر عن القداس، هل نستطيع أن نمنع الأولاد من المناولة (حضور جزئي للقداس).
(فرع الميناء)
لقد أشير (لدى تداول المرشدين لهذا السؤال قبل إلقاء مداخلتي) إلى وجهين من وجوه الإستعداد للمناولة، ألا وهما الإمتناع عن الأكل من جهة، والمشاركة في القداس من جهة أخرى. فإليكم بعض الملاحظات حول هاتين النقطتين:
1- يحسن أن نقربهما من مفهوم الأولاد عبر ربطهما بخبرات الحياة.المألوفة بشكل عام وبخبراتهم هم بنوع أخصّ. وهو ما يؤول إلى مزيد من الإستيعاب والإقتناع. من ناحية، يسمح بتخطّي المنظار الناموسي، الفرائضي، الخارجي، ومن ناحية أخرى بوَصل المسيحية بالحياة بحيث لا تبدو فيما بعد – كما هي الحال، للأسف، في كثير من الأحيان – جِسمًا غريبًا وعالمًا غيبيًا قائمًا بذاته لا تماسّ بينه وبين واقع المشاعر والإهتمامات الإنسانية.
أ- فمن حيث الإمتناع عن الأكل، يمكن أن نقول لهم ما يلي:
إذا كان لديكم رفيق تحبونه كثيراً، وإذا التقيتم بهذا الرفيق ذات يوم من ايام العطلة فخلا الجوّ لكما لتلعبا معًا وتتحدثا عن كلّ ما يهمّ كليكما، فقد يمّر الوقت دون أن تحسّا به، وقد يأتي أوان الغداء دون أن تشعرا بالجوع كما تشعران به عادة، لأنكما مأخوذان كلياً بهذا اللقاء المحبَّب. والآن تصوروا أن المسيح قد عاد إلى الأرض (وسيعود يومًا، في آخر الأزمنة كما تعلمون) وانه أتى إلى هذه المدينة التي تسكنون فيها، وانه أرسل يدعوكم إلى لقاء معه. أنتم تحبون المسيح، لذا ستحسبون أن هذه الفرصة المتاحة لكم للقائه انما هي فرصة العمر، فتذهبون إليه مسرعين وتتحلقون حوله بفرح وتصغون اليه بملء جوارحكم شاخصين بحبّ إلى وجهه المنير. ولسوف يمرّ الوقت دون أن تشعروا به، ولسوف تنسيكم بهجة اللقاء به ورؤيته والإستماع اليه حاجتكم إلى الطعام، لأن قلبكم يحظى إذ ذاك بغذاء يغنيكم عن غذاء المعدة.
والمناولة هي بالضبط لقاء مع المسيح، لقاء أكثر حميميّة بكثير من مجرّد مشاهدته والإستماع اليه، إذ تستضيفون به المسيح في ذواتكم، في صميم وجودكم، فيصبح أقرب اليكم من قلوبكم. ولكنكم، عندما تتناولون، لا ترون المسيح الآتي اليكم، من هنا انكم لا تلتهفون إلى لقائه بالمناولة كما كنتم التهفتم لو انكم شاهدتموه وسمعتموه ولمستموه. مع ذلك فانتم تعرفون بالإيمان، معرفة اليقين، انكم، بالمناولة تلتقون به وانه بها “يدخل تحت سقف بيتكم” لتضيفوه. انما لا يكفي أن تعرفوا ذلك، ينبغي أن تحسّوا به بشكل ما. وما الإمتناع عن الطعام قبل المناولة الا وسيلة تساعدكم، عبر الجوع والحرمان اللذين ارتضيتموهما من أجل يسوع، بانكم تستعدّون للقاء من هو أهمّ بكثير من الطعام، للقاء المسيح محبوبكم الأكبر.
ب- أما من حيث الإشتراك في القداس بكامله استعداداً للمناولة، فيمكن أن ننطلق من المثل الآتي (لاحظوا أننا، هنا كما في البند السابق، نقتفي آثار يسوع نفسه في اعتماد الأمثال طريقة للتحدث عن سرّ ملكوت الله): إذا دُعي إنسان إلى مأدبة، فإنه لا يأتي إلى بيت مضيفه في تمام ساعة تناوله الطعام، وإلا أُعتبر ذلك من قلة الأدب، بل يأتي قبل ذلك بفترة يقضيها بالتحدّث إلى أهل البيت وإلى باقي المدعوّين لترسيخ روابط الألفة والمودّة فيما بينه وبينهم، حتى إذا ما قام الجميع إلى مائدة الطعام، كان تناولهم له معًا لا مجرّد أكل وحسب بل تعبيرًا عن تلك المودّة التي تجمع بينهم والتي توطّدت بما جرى بينهم من تناول أطراف الحديث.
هكذا فالمناولة هي قمة القداس لأن بها يتم اللقاء الحميم بيننا وبين الرب، وبيننا كلّنا حول الرب. من هنا إنه ينبغي أن نستعد لهذا اللقاء- الذروة بترسيخ الفتنا مع الرب ومع بعضنا، عبر كافة مراحل القداس وما تحويه من مناجاة للرب بصلاة وترتيل نرفعهما اليه سوية، ومن استماع اليه معًا من خلال القراءَات الكتابيّة والوعظ الذي هو امتداد لها.
2- أما من حيث التساهل أو التشدّد مع الأولاد، في موضوع الإمتناع عن الطعام قبل المناولة وفي موضوع الإشتراك بالقداس كلّه، فينبغي برأيي أن لا نعتمد خطًا جامدًا وموقفًا متصلبًا بل أن نراعي مبدأ “التدبير”economia الذي تقول به الكنيسة الأرثوذكسية، والذي يجتهد في التوفيق، دون ميوعة في التساهل أو افراط في التشدّد، بين حدّة القانون وإمكانيات الناس، فيلطّف صرامة القانون بتأني الرأفة، لأن “السبت جُعل من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت” (مرقس 2: 27) وغاية القانون ليست تحطيم المرء بل بنيانه وتنميته. وفقًا لهذه الروح وتمشيًا مع هذا التراث، ينبغي، برأي، أن تتنوّع مواقفنا بموجب عدة عوامل لا بدّ من أخذها بعين الإعتبار، ومنها:
أ- عمر الأولاد
فما يمكن أن نطالب به “الصاعدين” (8-10 سنوات) و”الشاهدين” (10-12 سنوات) مختلف عما يحقّ لنا أن نطالب به “الزارعين” (6-8 سنوات) وخاصة “المستنيرين” (4-6 سنوات)، إن من حيث القدرة على احتمال الإمتناع عن الطعام أو من طاقة على احتمال طول القداس (وهو احتمال يتطلّب نموَّا في القدرة على التركيز جسديًا ونفسيًا وعلى ضبط النفس وفي القدرة على الإستيعاب وفي القدرة على التوافق الإجتماعي).
ب- شخصيّة كل ولد
وما بلغه هو بالذات من نموّ إنساني وروحيّ: فقد أكون أكثر تساهلاً من حيث التأخر عن القدّاس، مع ولد أراه يسعى صادقًا إلى التقدّم ولكنه لا يزال ضعيفًا في إنجازاته، فلا أحرمه من مناولة يمكنها أن تكون تشجيعاً له وحثًّا على مضاعفة الجهود، وقد أكون أكثر تشدّدًا مع ولد متقدم انسانيًا وروحيًا ولكنه مهدَّد بالإنسياق وراء نزعة إلى الإهمال أودّ أن أحذّره من خطرها عليه، أو مع ولد آخر لم يدرك بعد فعليًا أهمية المناولة فأمنعه عنها لأنبّهه إلى استهتاره وأوقظ حسّه الروحيّ المتبلّد: كل ذلك يقتضي مني التعرف على شخصية كل ولد بالذات ومتابعتي لسيرتها.ثم إنّني، إذا رأيت من المناسب منع الولد المتأخر عن المناولة، فالأفضل أن أحاول اقناعه بفحوى هذا المنع (اذا سمح الظرف بالتحدث اليه) كي أحمله إلى أن يقبله، ما أمكن ذلك، مختاراً.
ج- حجم التأخر
كذلك لا بدّ أن تُؤخَذ في الحساب نسبة تأخر الولد عن القداس وتكرار هذا التأخر، (مع تبيان ذلك للولد، على الفور أو بعد حين، ليقتنع بصوابيّة التدبير المتخذ بمنعه عن المناولة ويرى فيه، لا عقابًا أو زجرًا، بل حافزًا له على مزيد من الوعي والنضج، فيتبنّاه على هذا الأساس ويحوّله إلى رقابة داخليّة لسلوكه ومحاسبة لنفسه).