حديث ألقي في كنيسة مدرسة الآباء الكبوشيين في البترون يوم الجمعة 21 شباط 1975
صورة شائعة مغلوطة عن المسيحية
من التصوّرات الشائعة عن المسيحية، حتى بين المسيحيين أنفسهم، أنها دين يقيّد بموجبه الإنسان حرّيته ويحدّ من حيويته لينال مقابل ذلك حياة أبديّة بعد الموت. وكأنها مقايضة ينتزع الله بموجبها من الإنسان أثمن ما لديه في حياة الدنيا ليعطيه عوضًا عنه خيرات عالم مجهول. أو كأن الإنسان مغلوب على أمره، يُفرَض عليه نوع من الابتزاز الرهيب، فيُضطرّ أن يضحي بأغنى ما لديه في الوجود الأرضي لأنه صائر إلى الزوال، لئلا يخسر الآخرة التي لا تزول.
.
صورة شائعة، وقد يكون نوع من التربية الدينية قد رسّخها فينا، ولكنها لا تبدو لي منسجمة مع بشارة الإنجيل (وكلمة “إنجيل”، كما نعلم، تعني “بُشرى”، خبرًا مفرحًا) ومع ما تلقيناه من تراث أصيل بناه آباؤنا في الإيمان على قاعدة الإنجيل. على العكس، تبدو لي الرسالة المسيحية دعوة ملحّة، ومزعجة بقدر ما هي ملحاحة، إلى الحرية والحياة، إلى ملء الحرية وملء الحياة، منذ الآن ومنذ هنا، وليس فقط بعد الموت.
المسيحية دعوة إلى الحرية
المسيحية حرّية كلّها. من الحرية تنبع وفي الحرية تصبّ. ألم يكتب الرسول بولس إلى المسيحيين الذين في غلاطيه: “أيها الاخوة، إنما دُعيتم إلى الحرية” (غلاطية 5: 13)؟ وأيضًا “لقد حرّرنا المسيح لكي ننعم بهذه الحرية، فاثبتوا إذًا فيها، ولا تعودوا ترتبطون بنير العبودية” (غلاطية 5: 1)؟ ألم يقل في رسالة أخرى: “الربّ هو الروح، وحيثما روح الربّ فهناك الحرية” (2كورنثوس 3: 17)؟
حرية الاختيار
ليس إله يسوع المسيح إلهًا يفرض ذاته على مخلوقاته عنوة، بل حبّ مقدّم بحرّية للناس لكي يتجاوب هؤلاء معه بحريّة فيدخلون في وليمته ويحيون. لا يمكن للحبّ أن يكون إغتصابًا (“الحب ما بِصير غصب”، كما نقول في العاميّةّ)، لذا فعندما شاء الإله أن يسكن أرضنا لفائق حبّه، لم يعرض ذاته على البشر لا بالقوة ولا بالسلطان ولا حتى بالحجج الدامغة الساحقة، بل خاطب أعماقهم ونادى حرّياتهم وقبل بأن يرفضه الكثيرون، بأن يرفضوه حتى الصلب. الربّ في إنجيله يتوجّه إلى إرادة الناس وينتظر منها جوابًا حرًّا على دعوته. من هنا تلك العبارات: “من أراد أن يتبعني.. إن شئت أن تدخل الحياة… إن شئت أن تؤمن … إن شئت أن تكون كاملاً…”. مزعج هو الربّ بتأكيده هذا على حريتنا. كنا نودّ لو يجنّبنا مشقّة الاختيار، لو يرفع عنا عبء تقرير مصيرنا بأنفسنا، لو يفرض ذاته علينا ببراهين وعلامات ساطعة لا تترك مجالاً للتردّد فننقاد لها صاغرين. شاقّة هي الحرية، ولكن الربّ لا يشاء أن يوفّرها علينا، لأنها شرط كرامتنا ككائنات مخلوقة على صورته ومدعوّة إلى شركة الحب معه: “إنني لا أدعوكم عبيدًا بعد، (…) إنما دعوتكم أحباء” (يوحنا 15: 15)، هكذا يقول يسوع. لذا يصوّره لنا سفر الرؤيا هاتفًا: “ها أنذا واقف على الباب وأقرع، فإن سمع أحد صوتي، وفتح الباب، أدخل إليه، فأتعشى معه، وهو معي” (رؤيا 3: 20). إن خالق القلوب لا يلج إليها عنوة، إنما هو واقف على عتبتها يقرع كالمستعطي، علّها تشاء أن تسمع وأن تفتح الأبواب فيدخلها لا ليستولي عليها ويتملّكها بل ليغدق عليها نوره وفرحه وقوته، فتحيا وتتجلّى وتكتمل.
حرية الانطلاق
هكذا يكتمل معنى الحرية في الإنجيل. ليست الحرية فيه مجرّد حرية الاختيار. فإن هذه هي المنطلق الذي لا بدّ منه، ولكن الحرية الحقّة لا تقف عند حدّ الاختيار. الحرية التي يدعوني المسيح إليها ليست أن أختار الله بحرّية وحسب كما هو أختارني، بل أن أتحرّر بالله من قيودي، أن أتخطى بنوره كلّ ما يحدّ آفاقي، أن أتجاوز بقوته كلّ ما يكبّل كياني ويحدّ من طاقاتي ويحول دون تحقيق ملء وجودي. تلك هي “الحرية الكبرى” كما دُعيت، “حرية مجد أبناء الله” كما سمّاها الرسول بولس (رومية8: 21)، و”المجد” إنما هو توهّج الكيان الإنسانيّ إذا ما بلغ ذروته بحضور الله فيه. تلك هي الحرية التي قال عنها يسوع: “تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم” (يوحنا 8: 32). و”الحق” هو المسيح، الإله المتجسد، الذي قال: “أنا الطريق والحقّ والحياة” (يوحنا 14: 6). أما “المعرفة”، فتعني، في الكتاب، لا مجرد المعرفة العقلية بل الاختبار. “معرفة الحق” هي إذًا اختبار المسيح، خبرة العيش معه في تلك المشاركة الصميمية التي هي المعنى الأصيل لكلمة “إيمان”. تلك الخبرة تحرّرني لأنها تطلق كياني من عقالاته بقدرة ذلك الذي أُسلم له ذلك الكيان طوعًا فيبث فيه حياته كما قال الرسول: “أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ” (غلاطية 2: 20).
المسيحية دعوة إلى الحياة
هكذا يبدو لنا أن الحرية التي يدعونا إليها المسيح لا تنفصل عن الحياة. إنها الحياة بملئها. هذا ما يسميه الإنجيل “الحياة الأبدية”. عبارة “الحياة الأبدية” لا تعني حصرًا الحياة بعد الموت. إنها حياة الله إذا تسربت إلى كياننا بيسوع المسيح. إنها نابعة من اختبارنا لله (أو “معرفة” الله كما يقول الكتاب) بتقبّلنا لإبنه المتجسد: “هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك والذي أرسلته يسوع المسيح” (يوحنا 17: 3). هذه الحياة نحصل عليها منذ الآن، وإن كان الموت مرحلة لا بدّ منها لإكتمالها فينا. فالله يريدنا أن نحيا هنا أولاً، أن نبدأ منذ الآن بتذوق طَعم ملء الحياة. همّ الله أن نحيا، أن نلج، فيما نحن لا نزال على الأرض، باب الحياة الأبدية مفتوحًا على مصراعيه. من أجل ذلك أتى المسيح: “لقد أتيت لتكون لهم الحياة وتكون لهم بوفرة” (يوحنا10: 10). لا يُسرّ إله يسوع المسيح بسلبنا حياتنا، بل بإعطائنا حياته لكي ننعم بها منذ الآن، لا يبني مجده على أنقاض وجودنا بل يتمجد بغنى هذا الوجود. لقد علّمت كتب التعليم المسيحي قديمًا أن غاية وجود الإنسان على الأرض إنما هي تمجيد الله. ولكن كيف يتمجد الله، يا ترى؟ لقد أجاب على ذلك القديس إيريناوس، اسقف ليون، في القرن الثاني، عندما كتب: “مجد الله هو أن يحيا الإنسان”.
كيف تُشوَّه صورة المسيحية؟
إذا كانت الرسالة المسيحية رسالة حرية وحياة، فلماذا يتصوّرها الكثيرون على نقيض ذلك؟ لماذا تبدو لهم خنقًا للحرية وسحقًا للحياة؟ قد نكون مسؤولين، إلى حدٍ بعيد، عن تلك الصورة المشوّهة، نحن الذين نحمل مسؤوليةً ما في التربية الدينية، سواءً كنا رعاة أو والدين أو معلّمين. ذلك أننا، من خلال تعاليمنا ومواقفنا (وقد يكون للمواقف، في هذا المجال، وقع أكبر من مضمون التعاليم)، كثيرًا ما نظهر المسيحية بمظهر مجموعة من النواميس شأنها أن تحدّ من إنطلاقة الحياة وأن تحصرها ضمن حدود، آمنة، مضمونة، كما يقولون. كثيرًا ما نخلط بين المسيحي وبين الإنسان الذي نسمّيه “عاقلاً” أو “آدميًا”، أي ذاك الذي يخضع للأعراف والمصطلحات الاجتماعية، ناسين أن المسيح يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير وأنه يتحدّى عادات الناس وتقاليدهم وأعرافهم وأنه تصدّى لـ “أوادم” عصره، لهؤلاء الفريسيين الذين شاؤوا أن يحصروا الله ضمن حدود تقاليدهم الضيّقة التي كانوا يكبّلون بها الناس. لقد أعلن يسوع في وجه هؤلاء “أن السبت جُعل من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت”، أي أن كل ناموس إنما جُعل لإحياء الإنسان وتحريره، لا لسحقه وتكبيله، وبعبارة أخرى أن الناموس ليس غايةً بل مجرّد وسيلة، مجرّد علامة رُسمت لتشير إلى الطريق، طريق الحرية والحياة، الممتدّة إلى ما لا نهاية. كثيرًا ما نتصرّف، نحن المربّيين، كناموسيّين لا كمسيحيين، لأننا نخاف من حيث لا ندري من الحرية ومن الحياة، متناسين تعليم الرسول بأن المحبة إنما هي “كمال الناموس” (رومية13: 10) أي غايته ومقياسه، تلك المحبة التي يجد الإنسان فيها حريته وحياته، والتي قال عنها القديس اوغسطينوس، مرجّعًا صدى الإنجيل، كلمته الجريئة المشهورة: “أحبّ واصنع ما تشاء”.