في الذكرى الرابعة لانتقاله:الله والشعر عند ابونا بولس (بندلي)-خبرة فتى

mjoa Tuesday November 11, 2008 253

 كان الفتى على عتبة المراهقة. وكان يبحث عن نفسه ويحاول الاصغاء الى صوت جديد يهدر في الاعماق. كان الفتى يقعد بعض الظهر يحدث الصمت، قبل ان يعرف ان هناك من يصغي ويتكلم ليس فقط خلف الصمت، ولكن بالصمت عينه.

.

 فجأة، في احدى الايام انتبه الفتى الى صوت يصدر من المنزل المجاور؛ انجذب الى الصوت الهادئ المنبعث عن قرب (ففي الحي القديم، البيت لصيق البيت). سكت الصوت، تمتم احدهم شيئا وكانه سؤال، فتابع الصوت الهادئ. اقترب من النافذة، ليطل على الحديقة المجاورة للمنزل، ومنها الى النافذة التي يصدر منها الصوت الهادئ. كان الصوت هادئا وحيويا بآن، كان الرجل ملتهبا بهدوئه، تلك المفارقة الشعورية كانت للفتى ذهولا وجاذبية؛ كان الفتى يشعر بان الرجل غارق في شرح شيء ما لشباب يقعدون امامه حول طاولة، وهو امام لوح اخضر (على ما كان يظن الفتى). كانت تبدو عليه ابتسامة، وكان يعاود الشرح من جديد، الفتى رأى في الرجل هدوءا وحيوية ومعاناة؛ معاناة من يريد او يوصل من هم امامه الى باب فهم. كل هذا الخليط من الهدوء والحيوية والمعاناة الواضحة، كان جذابا، هذا الانسان كان جذابا. لم يكن الفتى يعرف ان كان للرجل وقت محدد للمجيء، لكنه في كل مرة يأتي فيها ذلك الرجل كان يحيا بذهول تلك الخبرة، خبرة جاذبية ذلك التضارب المنسجم بين الهدوء والحيوية، وبين المعاناة والبسمة. لاحقا اعلمته ابنة الجيران الحركية ان ذلك الرجل، المضيء بصوته، اسمه بولس بندلي، وانه كاهن، وانه استاذ فيزياء يساعد تلامذة يأتون الى بيت حركة الشبيبة الارثوذكسية الملاصق لمنزل والديه.

 كان الفتى يعجب ان يكون كاهن استاذ فيزياء، يعجب ان يكون للكهنة اهتمام علمي، وفي حالة الاب بولس كان الاهتمام معرفة عميقة. غاب الصوت وغاب الوجه عن حياة ذلك الفتى. ثم مرة، وبينما كان الفتى يلعب في ملعب مدرسة مار الياس (المدرسة الوطنية الارثوذكسية)، اذا بالمدير يخرج من باب الملعب، وذلك الرجل – ابونا يقف الى جانبه بهدوء صارخ. فهم الفتى من كلام المدير ان الاب سيرحل عن المدرسة (“آه… اذا كان استاذا في مدرستي”، قال الفتلا لنفسه). الاسب سيغادر. لم يركز الفتى على سوى هدوء غريب في وجه لطيف، كان يسمع هدوء “ابونا” الصارخ، فيرحل الفتى عن الكلمات حوله. ثم صمت التلامذة المجتمعون حول الباب، تكلم الاب استاذ الفيزياء، ورحل بعد ان صفق له تلامذته طويلا بحرارة حب زلزلت الفتى.

 لكن كيف الفيزياء واللاهوت يجتمعان؟ كيف العلم واللاهوت يلتقيان في شخص واحد؟ لاحقا في شبابه وفي مرحلة دراسته الجامعية، صار للفتى صديق يدرس الفيزياء في الجامعة. كان الصديقان يمشيان امسيات الصيف، بشكل شبه يومي، على ما تبقى من رصيف قرب شاطئ الميناء. لم يكن للفتى – الشاب آنذاك – ان يعرف انه سيلاقي “ابونا بولس” بطريقة غريبة. كان الشابان يتبادلان الوجع والتفكير في شأن الحب، والفرح والالم، وغربة الله، ومعاناة الناس – الكنيسة، وكل جحيم وسماوات حياتهما. وكان الفتى – الشاب يسأل صديقه، كل مرة، ان يحدثه عن آخر اخبار الفيزياء التي يدرسها؛ حتى قال مرة لصديقه “تعرف اشعر في الفيزياء بالكثير من الشعر”. وتبدى له ان تفاصيل الكون قصائد الله لنا، كما يتبدى لكل انسان يرفض ان يتحول الى مجرد مستخدم للكون، كما يختبر كل الناس قبل ان يقرر عدد منهم ان يصير آلة اجتماعية. “الفيزياء شعر، شعر صاف” هتف، ,لم يفهم لماذا، تلك كانت خبرته الكيانية. لاحقا علم ان احدهم ايضا قال عن الله انه “شاعر الكون”. في ذلك الجو الشعري للفيزياء اطل فجأة، في فكر الشاب، وجه “ابونا بولس” من جديد. الفيزياء والشعر، الفيزياء واللاهوت: ولدت الكنيسة لاهوتيين شعراء، او يكون وجه الله الشعري هو ذلك الباب بين الفيزياء واللاهوت الذي رآه الانسان بولس بندلي؟ سمع الشاب لاحقا عن التزام سيدنا بحركة الشبيبة الارثوذكسية، وعن نشوئه فيها متحسسا هم الكنيسة ونهضتها. هم الكنيسة هو المعاناة التي بدت لي في فعله، قال الشاب، والهدوء هو سمته الشخصية الفريدة. اما حيويته، فلا يمكن ان تأتي فقط من شعوره بالمسؤولية، بل ان الشعور بالمسؤولية ليس هو الاساس، ذلك بان الحب هو الذي يلد المسؤولية؛ حيوية تأتي، اذا، من المسير الى حبيب، من الفرح المعاش والمنتظر بآن، من عمق محب مسافر الى لقاء اعمق فاعمق. المعاناة والهدوء والحيوية كام يجمعها في قلب سيدنا بولس الوجه الشعري لله، “هذا، اذا، ما كان يمتعني في صوته… وجه الله!” هكذا فهم الشاب حديث “ابونا” الصامت اليه، حديث حياة “ابونا” نفسها، وجوده عينه؛ والشاب لم يكن يعرف حتى تلك اللحظة ان “ابونا” كان قد وجه اليه خطابا صامتا، كخطاب الله الذي اختبره في مطلع مراهقته.

 تلك كانت قصة انسان راى وجه الله في صوت رجل يشرح الفيزياء، وهي شيء بسيط من عاشق صدر حبه عنه حيوية، وولدت معاناته عملا، وكان هدوؤه واحة في صخب العالم. كان يأخذ الانسان على عاتقه شخصيا، ولهذا كان البعض يتهمه بتضييع الوقت. اما هو، فكان همه العناية شخصيا بالانسان الحاضر امامه، وهذا لا يفهمه المذهولون بالكمية. الوقت؟ ما معنى الوقت سوى الانسان الحاضر “الان وهنا”؟ او ليس هذا معنى قول المسيح ان الملكوت حاضر الان؟ وكيف يكون حاضر الان سوى في وجه الانسان الذي امامنا؟ هو كان يعرف الملكوت في الانسان الذي امامه، لانه كان وما يزال يرى فيه الله؛ حياته هي ترجمة للقول الابائي “اذا رايت اخاك، فقد رايت الهك”. وكان تصرفه المعتني يهتف بالانسان الحاضر امامه “يا فرحي”، ويهتف بخفر وصمت لله “يا حبي”. ولهذا فان سيدنا بولس كان وما يزال حاملا حقيقة وجه الله الشعري في العالم.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share